لو كان الامر على ما ادعيتموه عليه فيظهر منه الخلف في قوله، ولبس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.
فقال الشيخ أدام الله عزه ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخفه وهلعه ليشجع أصحابه، ويحض (1) المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه، ويقوي عزمهم في معونته، ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه، وهكذا تصنع الحكماء في تدبيراتهم، فيظهرون من الصبر ما ليس عندهم، ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الامر وينظروا عواقبه، فإن استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم وكلوا الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم، وإن أقاموا على الخذلان و اتفقوا على ترك النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف، وقالوا: قد كانت الحال موجبة للقتال، وكان عزمنا على ذلك تاما فلما رأينا أشياعنا وعامة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة (2) إعفاء هم مما يكرهون، والتدبير لهم بما يؤثرون، وهذا أمر قد جرت به عادات الرؤساء في كل زمان، ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند الأنام، فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على موافقته في ذلك، ولم يبدلهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم، ويقوي به رأيهم، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ المراد، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول! كما وصفناه من حال الرؤساء في تدبيراتهم، على أن أبا بكر لم يقسم بالله تعالى في قتال أهل الردة بنفسه، وإنما أقسم بأنصاره (3) الذين اتبعوه على رأيه، وليس في يمينه