ثم رجع من مسجد الفتح إلى معسكره فصاح بحذيفة بن اليمان - وكان قريبا - ثلاثا، فقال في الثالثة: لبيك يا رسول الله. قال: تسمع صوتي ولا تجيبني؟ فقال: منعني شدة البرد. فقال: اعبر الخندق: فاعرف خبر قريش والأحزاب، وارجع، ولا تحدث حدثا حتى ترجع إلي.
فقمت وأنا أنتقض من البرد، فعبرت الخندق، وكأني في الحمام، فصرت إلى معسكرهم فلم أجد هناك إلا خيمة أبي سفيان وعنده جماعة من وجوه قريش، وبين أيديهم نار تشتعل مرة وتخبوا أخرى، فانسللت فجلست بينهم.
فقال أبو سفيان: إن كنا نقاتل أهل الأرض فنحن بالقدرة عليه، وإن كنا نقاتل أهل السماء كما يقول محمد فلا طاقة لنا بأهل السماء، أنظروا بينكم لا يكون لمحمد عين بيننا، فليسأل بعضكم بعضا.
قال حذيفة: فبادرت إلى الذي عن يميني فقلت: من أنت؟ قال: خالد بن الوليد.
وقلت للذي عن يساري: من أنت؟ قال: فلان. فلم يسألني أحد منهم.
ثم قال أبو سفيان لخالد: إما أن تتقدم أنت فتجمع إلي الناس ليلحق بعضهم ببعض، فأكون على الساقة، وإما أن أتقدم أنا، وتكون على الساقة.
قال: بل أتقدم أنا وتتأخر أنت.
فقاموا جميعا فتقدموا وتأخر أبو سفيان، فخرج من الخيمة وأنا اختفيت في ظلها، فركب راحلته وهي معقولة من الدهش الذي كان به، فنزل يحل العقال فأمكنني قتله، فلما هممت بذلك تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله لي: " لا تحدثن حدثا حتى ترجع إلي ".
فكففت ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقد طلع الفجر، فحمد الله، ثم صلى بالناس الفجر، ونادى مناديه: لا يبرحن أحد مكانه إلى أن تطلع الشمس.
فما أصبح إلا وقد تفرق عنه الجماعة إلا نفرا يسيرا.