المقامات والتفاضل فيما بين تلك الدرجات; وبالجملة له بصيرة كاملة يعلم بها حالاته وصفاته المطلوبة منه عقلا ونقلا وأسباب تلك الحالات والباعث لوجوده في نفسه ومقاماته المندرجة ومنازلة المتفاوتة في السير إلى الله تعالى، ويحتلم أن يكون المراد أنه إذا كان تأييد عقله من النور علم كيفية الأشياء في نفس الأمر ولميتها وحيثيتها وإنيتها والله أعلم (وعرف من نصحه ومن غشه) لأنه يميز بين الأقوال الصادقة والكاذبة ويفرق بين الأحوال الصحيحة والسقيمة فمن أتاه بشئ منها يتلقاه بوجه قلبه ويزنه بميزان عقله، فيعلم صرفه من ممزوجه وخالصه من مغشوشه وصريفه من صرفاته وبذلك يميز بين الناصح الأمين والغاش الميون. وبين أئمة الهدى وأئمة الضلال.
(فإذا عرف ذلك) أي كيف ولم وحيث ومن نصحه ومن غشه (عرف مجراه) اسم المكان أو مصدر ميمي فبضم الميم من الاجراء وبفتحها من الجري وبالوجهين قرىء قوله تعالى (بسم الله مجريها ومرسيها) يعني إذا عرف الأحوالات والصفات وميز بين رديها وجيدها وعرف أغراضها وأسبابها والغرض من إيجاده ومقامات وجوده وعرف من نصحه ومن غشه معرفة صحيحه خالصة من شوائب الوهم وعرف مسلكه الذي يسلكه وسمته الذي يتوجه إلى أو عرف جريه وسيره إلى حضرة القدس وسلوكه إلى مقام الانس إذ السير على أي وجه اتفق ليس موجبا للوصول إليه والقيام بين يديه بل الموجب لذلك سير مخصوص وجري معلوم لأرباب العقول المنورة (وموصوله ومفصوله) أي من ينبغي الوصول معه الفصل عنه من أئمة الهدى وأئمة الضلال أو ما ينبغي من الأحوال والصفات (وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة) إخلاص هذين الأمرين الذي هو الأصل في التقرب إليه والفوز بالمزيد من لديه إنما يتيسر لمن له معرفة بالأمور المذكورة لأنه العارف بأنه تعالى هو المستحق للعبادة والإقرار له بالعبودية والطاعة لكون بدنه منخرطا في سلك خدمته، وقلبه مستغرقا في بحر معرفته، وسره طالبا إياه، وعقله معرضا عما سواه، وأما غيره فلا يخلو قطعا من الشرك الخفي أو الجلي (فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات وواردا على ما هو آت) ينبغي الوقوف في آخر الكلمتين، ولا شك أن الاخلاص المذكور غاية المراتب العلية في العقايد البشرية وأنه متوقف على المعارف المذكورة آنفا بحكم الشرط المذكور وأن تلك المعارف كلها غير متحصلة في أول التكليف إلا لمن خصه الله تعالى بكمال العقل من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ومن هذه المقدمات يعلم أن الإنسان لا يخلو من تقصير ما فيما مضى إلى أوان كماله، وإذا بلغ حد الكمال واتصف بتلك المعارف وحصل له ذلك الاخلاص ووجد لذة العبودية وتحلى بغاية الخضوع وتزين بلباس الخوف، كان مستدركا قطعا لما فات عنه فيقضي بعضه مما ينبغي فعله ويستغفر ربه فيما لا يمكن تداركه إلا به، ويعترف بالتقصير فيما يعجز عنه، وواردا على ما هو آت من الأعمال