كعلو السبب على المسبب، والأول محال في حقه تعالى لاستحالة كونه في المكان، وكذا الثاني لتنزهه عن الكمالات الخيالية إذ هي إضافية تتغير وتدرك بحسب الأشخاص والأوقات، ولا شئ من كماله كذلك فبقي أن يكون عقليا مطلقا بمعنى أنه لا رتبة تساوي رتبته.
بيان ذلك: أن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبة العلية ولما كان ذاته المقدسة هي مبدء كل موجود حسي وعقلي وعلته التي لا يتصور فيها النقصان بوجه من الوجوه لاجرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية على الاطلاق وله العلو في الوجود العاري عن الإضافة إلى شئ، وعن إمكان أن يكون في مرتبته أو فوق مرتبته شئ ومن كان كذلك فهو منزه عن التشبه بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(دنا فتعالى) أي قرب من كل شئ من كل وجه بحيث لا يكون شئ أقرب منه فتعالى أن يكون في مكان أو زمان أو مدركا بالبصر أو بغيره من الحواس، والتفريع أيضا ظاهر لأن الزماني والمكاني والمدرك بالحواس يمتنع أن يكون قريبا من كل شئ لظهور أن قربه من أحد مستلزم لبعده عن الآخر، ثم الدنو يطلق على معان ثلاثة ومقابلة لمعاني العلو ولا يجوز أن يراد هنا شئ منها، ويطلق على معنى رابع في مثل قولك فلان أدنى إلى فلان إذا كان مطلعا على أحواله أكثر من غيره، وهو المراد هنا، فدنوه في قربه إذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو أدنى من كل دان، وأقرب من كل قريب بهذا الاعتبار، كما قال سبحانه: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).
(وارتفع فوق كل منظر) الظرف حال من فاعل «ارتفع». ويجوز أن يراد بالمنظر العلة لأن نظر المعلول إليها، يعني أنه فوق كل علة لأن تاليه نظر جميع الكائنات وانتهاء سلسلة جميع الممكنات، وأن يراد به المدرك بالعقل يعني أنه فوق كل ما أدرك العقل لأن كل ما أدركه العقل فهو صورة ومثال يمتنع أن يقال: إنه هو، ويحتمل أن يكون هذا الكلام على سبيل التمثيل والله أعلم.
(لا بدأ لأوليته) لاستحالة الحدوث عليه. (ولا غاية لأزليته) لاستحالة العدم عليه. (القائم قبل الأشياء) أي قبل كل واحد منها، لأنه كان ولم يكن معه شئ ثم أحدثه بمجرد حكمته فهو متفرد بالقدم، وفيه رد على بعض الفلاسفة، وليس المراد بالقبلية القبلية الزمانية حتى يلزم أن يكون في زمان وأن لا يكون متقدما عليه، لأن القبلية الزمانية إنما يكون في الزمانيات كما بين في موضعه والله سبحانه ليس بزماني.
(والدائم الذي به قوامها) قوام الشئ - بالكسر -: نظامه، وتقديم الظرف للحصر; وفيه رد على من أسند نظام هذا العالم إلى غيره كالدهرية والمبتدعة من الفلاسفة وأضرابهم.