أخي فهم، إني في تياك المودة أشقى، بعدما تمسكت منها بالعروة الوثقى، لا وعافاك الله من العلل، وبلغك منتهى المجد وقد فعل، لا يلهو عن تلك المحبة عميدها، ولا يخلق على تعاقب الليالي والأيام جديدها، وليت شعري اعتاض عنك، بأي بدل منك، ولمن أربي مولود الوفاء، ولمن أزف عروس الاخلاص والصفاء، وملتمس الثقة، لايداع المقه، كالمرتبع بواد غير زرع، والمنتج في بوار خالبة اللمع، والمغترف من السراب الخادع، والقابض على الماء خانته فروج الأصابع، فهم ومن جعلك جوهرة الزمن، حريون بقول المهيار أبي الحسن:
خلق إذا حدثت عن أخلاقها * فكأنما كشفت عن سوءاتها وأما وعليا أبيك، وخلاله الصالحة التي اجتمعت في أخيك وفيك، وسماء مجده التي أنتما قمراها، وعبقات فخره التي ينفح عطفا كما برياها، لأنت على بعدك، يا نسيج وحدك، ثاني النفس لدي، وثالث عيني، بل أعز منهما علي، وما تركت المواجهة، رغبة عن المشافهة، ولا المراسلة، رغبة عن المواصلة، كلا بل لعوائق طارية، وشواغل غير متناهية، تلهي الحليم عن نفسه، وتنسيه يومه فضلا عن أمسه، ولولاها:
لنثرت حبات القلوب ألوكة * ونظمتها شوقا إليك قريضا * * * 5 - وكتب إلى الحاج محمد رضا كبه بهذه الرسالة وصدرها بهذه الأبيات:
أغض النسيم تحمل سلامي * فحي برياه (دار السلام) سلام محب غريق الوداد * غريق الفؤاد ببحر الغرام يميت بشوق بياض النهار * ويحيي بشوق سواد الظلام وتهفو نوازع أشواقه * بلب حشاشته المستهام يطالع بالفكر وجه الحبيب * فيحظي برؤية بدر التمام حبيب أروح قلبي العليل * من ذكره بنسيم المدام وشوقي إلى در ألفاظه * كشوق الرياض لدر الغمام ممن سكن روحه بمحاني (الزوراء)، وأقام جسمه بمغاني (الفيحاء)، إقامة المغترب عن وطنه، اللابث في غير عطنه، لا يملك على الخفوق، أثناء قلبه المشوق، ولا يلقي سمعه إلى نديم، ولو كان أفصح الأنام، ولا يرتاح إلى مفاكهة ولو كان من ولدان النعيم، عبق الكلام، ولا ينظر إلا بعين انسية الأجفان، وحشية الانسان، قد عرفت آماقها الأرق، وأنكرت أحداقها الرفق، لم تفتح على أناس بصرها، إلا استوحشت عنه فغضت عنهم نظرها:
أتأنس في فتح أجفانها * عيوني في غير إنسانها ويخلص يوما لنفسي السرور * إذا وصلت غير خلصانها إذا كذبت بادعاء الوداد * نفسي وما الكذب من شانها نعم عندها الغدر بعد الوفاء * هو الكفر من بعد ايمانها على أنني لم أبرح مسائي وصباحي، وغدوي ورواحي، وعشيتي وأبكاري، وأصيلي وأسحاري، حرج الصدر، متشعب الفكر، ملوي الحشاشة على حسرات متعالية، طوى الجوانح على زفرات إلى التراقي متراقية، من لوعة غير ماضية، أقتل من ماضية الحد، وصبابة كأنها جمرة ذاكية الوقد، فإذا غشيني الدجى بغياهبه، ورقدت الورى أحصيت عدد كواكبه، بعين ابن شوق نسيت أجفانه الكرى، وإذا نضا الليل عني ثياب ظلمائه، وألبسني النهار جلباب ضيائه، أقبلت على نفسي أعللها بوشيك التداني، واسلي غلة شوقها بسراب الأماني، فتذم من أمسها ما استدبرت، وتحمد من يومها ما استقبلت، حتى يأكل فم الغروب قرص الشمس، ولم تحصل من الرجاء إلا على اليأس، ولما لم يبق لي في قوس الأماني منزع، ولا في مطمعات الأماني مطمع، سبرت بعين البصيرة والعقل، مذاهب طرق الوصل، فوجدتها على ثلاثة أنحاء، بين أهل المودة والإخاء، إما بمشاهدة العيان على القرب، أو حضور الحبيب في مهجة المحب، أو بث الشوق إليه والوجد، بالمراسلة على البعد، فألفيت أولها مستحيلا، بعد أن طلبته بكرة وأصيلا. وأما الثاني فما عداني وحين وصلت بالنظر إلى طريقها الثالث، وقطعت عن أولها قرينة البواعث، وجدت نفسي مقصرة في عدم إتيانه لاقتدارها عليه مع شدة إمكانه، فلم أزل أوبخها في ذلك وألومها وأعذلها والندم فيما هناك نديمها، إلى أن تمنت من شدة الخجل، لو سبق السيف إليها ذلك العذل، وقد أخرسها الذنب، وأفحمها العتب، لأنها قطعت لسان عذرها، في شبات هجرها، حيث أنها وإن طلبت من أنواع المواصلة أطيبها، وأكملها لذة وأعذبها، إلا أن مالا يدرك جله لا يترك أقله، ولكن منها هذه الزلة، صدرت بعد ماجد شابه فرعه أصله، ووصف طيب أخلاقه، كريم أعراقه، ولذا نهضت بعد كبوتها، بأذيال هفوتها، وسلكت إلى المواصلة، بطريق المراسلة، وإلى المخاطبة، بالمكاتبة، ولم تزل تمحض غزير درها، وتمخض ثميلة فكرها، حتى استخلصت زبدة سلام رائقه، يستعذب بها حتى من لم تكن له ذائقة، لو ضوعت في لهاة من حشرجت من الموت نفسه لا انساغت بفيه، أو تنفست أرواحها على بدنه لقرت الروح فيه:
فما روضة مرشوقة عن عبيرها * تحدثن أنفاس الصبا والجنائب بأطيب عرفا من سلام بنشره * يعطر فاه كل راو وخاطب ترفعه عوامل شوق تنازعت جلدي، وجلبت السقم في تصرفها إلى كبدي، فنسخت جميل صبري، وأطالت اشتغال فكري، إلى من نصب الله على التمييز علم فخره، فانخفضت بالإضافة إلى عزه جميع أبناء دهره، وجزمت بنو الدنيا أنه في السماحة البحر المحيط، إذا بسط لها بالعطاء كفا استغرق وافر جودها ما حوته دائرة البسيط، فأقال به من كبوة الجد عثارها، حتى سلمت له بالفضل اقرارها، فهو في أصله الذي عرقت به العلياء، كما قلت فيه مخاطبا له بهذا الثناء:
يا أمجد الناس فرعا * ينمي لأكرم أصل (837)