بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع ويتكافأ المبتدع والبديع، خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها وخد أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قواه، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شئ منها بحلاله وعزته، ولا يعجزه شئ منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه، خضعت الأشياء له وذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره، ولا كفؤ له فيكافيه، ولا نظير له فيساويه، هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها، وكيف لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مراحها وسائمها وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنها مقهورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، ومذعنة بالضعف عن إفنائها!
" وإن الله سبحانه، يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه، كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان، ولا حين ولا زمان، عدمت عند الآجال والأوقات والأوقات والسنون والساعات، فلا شئ إلا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا فدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها، ولو قدرت على الامتناع دام بقاؤها، لم يتكاءده صنع شئ منها إذ صنعه، ولم يؤده منها خلق ما خلقه وبرأه!
ولا لو حشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها، ثم هو يفنيها بعد تكوينها،