فقام القاضي من مقامه وأخذ بيد الشيخ وأجلسه معه على مسنده وقال: أنت المفيد حقا.
فغاض الحاضرين فعل القاضي هذا فقال لهم: أيها الفضلاء العلماء، إن هذا الرجل أفحمني وعجزت عن جوابه، فمن كان عنده جواب ما ذكره فليذكره ليقوم الرجل ويرجع إلى مكانه الأول.
فلما انفض المجلس شاعت القصة واتصلت بعضد الدولة، فأرسل إلى الشيخ وسأله فحكى له ذلك، فخلع عليه خلعة سنية، وأمر له بفرس محلى بالزينة، وأمر له بوظيفة تجرى له.
أقول: ومن أراد نماذج من مناظراته وبحوثه الكلامية والمساجلات العلمية الجارية في مجالسه العامرة فليرجع إلى ما اختاره وجمعه من ذلك تلميذه الشريف المرتضى المطبوع باسم " الفصول المختارة من العيون والمحاسن ".
وأنت ترى أن أساتذته لقبوه بالمفيد على أثر مناظراته وهو بعد في سن مبكرة قد ورد بغداد لطلب العلم.
وترجم له ابن أبي طي الغساني الحلبي - المتوفى سنة 630 ه في تاريخه ترجمة جيدة مطولة، حكي في بعض المصادر جمل منها، فقد ترجم الذهبي للشيخ المفيد في سير أعلام النبلاء 17 / 344 وحكى عن ابن أبي طي قوله: " كان أوحد في جميع فنون العلم، الأصلين والفقه والأخبار ومعرفة الرجال والتفسير والنحو والشعر، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع العظمة في الدولة البويهية والرتبة الجسيمة عند الخلفاء، وكان قوي النفس، كثير البر، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، يلبس الخشن من الثياب، وكان مديما للمطالعة والتعليم، ومن أحفظ الناس، قيل: إنه ما ترك للمخالفين كتابا إلا وحفظه!، وبهذا قدر على حل شبه القوم، وكان من أحرص الناس على التعليم، يدور على المكاتب وحوانيت الحاكة فيتلمح الصبي الفطن فيستأجره من أبويه وبذلك كثر تلامذته، وقيل: ربما زاره عضد الدولة ويقول له: إشفع تشفع، وكان نحيفا أسمر، عاش ستا وسبعين سنة، وله أكثر من مائتي مصنف... مات سنة 413، وشيعه ثمانون