وأخلاه من بهي جواهر العقول وثريها، ثم يقال لولاة أعلى الكلام طبقة وأمتنه، ولأرباب آنقه طريقة وأحسنه: هاتوا بما ينحو نحوه، وهلموا بما يحذو حذوه، فيعترضهم الحجز، ويتبين فيهم العجز، فيقال قد استصرفهم الله عن أهون ما كانوا فيه ماهرين، وأيسر ما كانوا عليه قادرين، ألم ترهم كيف كانوا يعنقون (123) في المضمار فوقفوا، وينهبون الحلبة بخطاهم فقطفوا (124)، ولا يقال الله قادر على أن يأتي بما هو أفصح وأفصح، وأملح لفظا ومعنى وأملح، فهلا أتى بذلك المتناهي في الفصاحة والمتمادي في الملاحة، فإن الغرض اتضاح الحجة وقد اتضحت، وافتضاح الشبهة وقد افتضحت، وإذا حصل الغرض فليس وراءه معترض.
وأما إغفال السلف لما نحن بصدده، وإهمالهم الدلالة على سننه، والمشي على جدده (125)، فلأن القوم كانوا أبناء الآخرة، وإن نشأوا في حجر هذه الغادرة، ديدنهم قصر الآمال، وأخذ العلوم لتصحيح الأعمال، وكانوا يتوخون الأهم فالأهم والأولى فالأولى والأزلف فالأزلف من مرضاة المولى، ولأنهم كانوا مشاغيل بجر أعباء الجهاد، معنين (126) بتقويم صفات أهل العناد، معكوفي الهمم على نشر الأعلام لنصرة الإسلام، فكان ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام لتعليمه وتلقينه، وأرسل للتوقيف عليه وتبيينه، أهم عندهم مما كانوا مطبوعين على معرفته، مجبولين على تبين حاله وصفته، وكان إذ ذاك البيان غضا طريا، واللسان سليما من اللكنة بريا، وطرق الفصاحة مسلوكة سائرة، ومنازلها مأهولة عامرة، وقد مهد عذرهم تعويلهم على ما شاع وتواتر، واستفاض وتظاهر، من عجز العرب وثبات العلم به ورسوخه في الصدور، وبقائه في القلوب على ممر العصور.