وقوله تعالى (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) (1) وقوله تعالى (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) (2) وقوله سبحانه (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) (3) فإرادة قبول الإنذار من المنذر، والإنذار بقصد أن ينذر المنذر لا يكون حقيقيا إلا إذا كان المنذر ممن اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب، ويؤثر فيه الإنذار.
أما من لم يؤثر فيه ذلك، ولا ينذر بالإنذار فإنذاره ليس إلا صوريا، ولرفع عذره ولئلا يكون له على الله حجة.
هذا، وإن شئت قلت: إن الإرادة التشريعية على ضربين، ضرب منهما ما يعلم المريد من حال المراد منه أنه ينبعث نحو المأمور به بأمره، ويحركه ويصير داعيا له، فيطلب منه ذلك بالطلب الحقيقي، والإرادة الجدية، وضرب منهما ما يعلم المريد من حال المراد منه أنه لا يتأثر بأمره، فيحكم بأمره أو نهيه بما ينبغي أن يفعل، أو لا يفعل وينشأ ما يصلح أن يكون داعيا له، ولكن لا طلب له حقيقيا في هذه الصورة، ولا يريد انبعاث المأمور بهذا الأمر بالإرادة الجدية، بل لا يصح إطلاق الطلب والإرادة على ذلك بنحو الحقيقة إلا مجازا وبالتمحل، بخلاف الأول فإن إطلاق الطلب والإرادة وأنه مريد وطالب يكون على نحو الحقيقة.
وعلى هذا نقول: إن الإرادة المذكورة في الآية وإن كانت تشريعية، إلا أنها من النوع الأول الذي أراد الآمر والناهي بالإرادة الجدية، والطلب الحقيقي انبعاث المأمور، وأمره ونهيه يصدر منه بداعي انبعاثه، وصراحة الآية في ذلك، وأن الإرادة المذكورة جدية وليست من النوع الثاني، في غاية الوضوح.