خامسا؟ البحث النفسي لقد أثبت البحث النفسي، الذي ذكرناه آنفا، أن جميع أفكار الانسان؟ أو بعبارة أخرى:
جميع خلايا مخه؟ تبقى بصفة دائمة. وهذا الواقع يثبت بصراحة أن عقل الانسان ليس بجزء من جسمه، فان جميع خلايا وأنسجة الجسم تتغير تغيرا كاملا في بضعة أعوام، ولكن سجل اللاشعور لا يقبل أي تغير أو مغالطة أو شبهة على رغم مرور مئات السنين. ولو كان هذا السجل الحافظ كائنا في الجسم فلا أدري أين مكانه منه؟ وفي أي جزء يكمن على وجه الخصوص؟ ولو كان في أحد أجزاء هذا الجسم، فلماذا لا يزول عندما تزول هذه الأجزاء بعد سنوات عديدة؟ ما أعجب هذا السجل الذي تتحطم جميع لوحاته تلقائيا، ولكنه لا يفنى ولا يزول!؟.
ان هذه البحوث الجديدة في علم النفس تؤكد، بصفة قاطعة، أن الوجود الانساني لا تنحصر حقيقته في ذلك الجسم المادي الذي يخضع دوما لعمليات التحطم والاحتكاك والفناء، بل هو شئ آخر، غير هذا كله، وهو لا يفنى، بل يبقى مستقلا، ولا يزول.
ويعلم من هذا أيضا أن الحواجز وقوانين الزمن لا وظيفة لها الا في عالمنا هذا، ولو كان هناك عالم آخر، يبدأ عند فناء جسمنا المادي، فهو يخلو تماما من هذه الحواجز والقوانين. ان كل ما نباشره من الأعمال والأفعال الشعورية يخرج في نطاق هذه القوانين والحواجز. ولو كانت هناك حياة عقلية أخرى؟ كما يعتقد فرويد؟ فمعناه أن هذه الحياة الجارية لن تفنى أبدا، بل ستستأنف مسيرتها بعد الموت، وسوف نكون على قيد الحياة، فان هذا الموت لم يكن الا نتيجة من نتائج هذه الحواجز والقوانين الزمنية.
أما وجودنا الحقيقي؟ وهو اللاشعور، كما يقول فرويد؟ فهو حر مستقل عن هذه الحواجز والقوانين، ولا يطرأ عليه الموت، بل يأتي (الموت) على الجسد العنصري المادي، ويبقى اللاشعور؟ وهو الانسان الحقيقي؟ كما هو.. ومثاله أن حادثا وقع قبل ربع قرن، أو فكرا خطر ببالي قبل عشرين سنة، وقد نسيت كليهما قاطبة، ومع ذلك فاني أراهما في أحلامي اليوم. وتفسير ذلك عند علماء النفس هو أنهما كانا محفوظين في اللاشعور بأكمل صورهما وجزئياتهما، كأنهما حدثا بالأمس!!.
وقد نتساءل هنا: وأين هذا اللاشعور؟ فلو كان منقوشا على الخلايا؟ كالصوت مسجلا على الأسطوانات؟ فان تلك الخلايا، التي سجلت ذلك الحادث قبل ربع قرن، أو هذه الفكرة قبل عشرين سنة، قد تحطمت وزالت منذ سنين طويلة، ولا علاقة لها، في أي صورة، بجسدي الموجود الآن. فأين هذا الفكر من جسدي؟ تلك شهادة تثبت؟ قطعيا؟