ويعتقد بعض العلماء والفلاسفة أن خيبة آمال الانسان في حياته الراهنة هي التي تجعله يفكر في حياة أفضل، وهم يرون أن هذا الفكر سوف يتلاشى لو أتيح للانسان مجتمع رفاهي كامل. فقد اعتنق عدد كبير من أسرى الروم المسيحية لأنها وعدتهم بأفراح السماء..
ولذا تتوقع هذه الطائفة من العلماء والفلاسفة أن سعادة الانسان ورفاهية المجتمع سوف تزداد أكثر فأكثر، إلى أن تقضي نهائيا على نظرية العالم الآخر.
ولكن تاريخ الأربعمائة سنة الأخيرة؟ التي ازدهرت فيها العلوم والتكنولوجيا؟ يكذب هذا التوقع، فان أول ما هيأ التقدم التكنولوجي للانسان أنه أتاح له وسائل عديدة، احتكرتها أيد محدودة، قامت بدورها باستغلالها، وقضت على صغار العمال والحرفيين، وحولت تيار الثروات إلى كنوزها، وخزائنها، وجعلت من الشعب عمالا فقراء معوزين، ويمكن مطالعة هذه المناظر القبيحة التي جاءت نتيجة للتقدم التكنولوجي، في كتاب كارل ماركس رأس المال، الذي يعتبر ضجيجا للطبقة العمالية التي عاشت القرنين الثامن والتاسع بعد الألف، ثم بدأت ردود فعل هذا الضجيج، وتبعه كفاح طويل، قامت به المنظمات العمالية، حتى تحسنت الأحوال إلى حد ما. ولكنني أرى أن التغيير الذي طرأ على أحوال العمال ليس إلا ظاهريا، فعامل اليوم يتقاضى أكثر مما كان يتقاضاه بالأمس، أما السعادة الحقة، فإنه أكثر افتقادا لها من سلفه.. ذلك أن النظام التكنولوجي لم يعط الانسان أكثر من مظاهر مادية، فهو لا يملك القيم الروحية، حتى يمنح لأتباعه السعادة والطمأنينة القلبية، وما أصدق ما قاله الشاعر (Blak) عن انسان الحضارة الحديثة:
A mark in every face I meet Marks of weakness, marks of woe لكل وجه ترى عليه سمات * * * فيه ضعف، وفيه ذل وحقد لقد اعترف برتراند راسل قائلا: ان حيوانات عالمنا يغمرها السرور والفرح، على حين كان الناس أجدر من الحيوان بهذه السعادة، ولكنهم محرومون من نعمتها في عالمنا الحديث (1). واليوم، كما يقول راسل، أصبح من المستحيل الحصول على هذه النعمة:
السعادة (2)!!.
انك عندما تزور نيويورك، تشاهد أبنيتها الضخمة مثل عمارة امباير ستيت، التي تتكون من 102 طابقا، وهي عالية جدا، حتى أن درجة الحرارة في أدوارها العليا تكون منخفضة جدا بالنسبة إلى أدوارها السفلى، وعندما تخرج منها وتراها من الشارع.