ومن البله ان يظن ان اخبار السلف هدف ثقافي، يقصد لذاته كمتعة عقلية، دون ان يكون من وراء ذلك مشروع انهاض، وخطة توعية من أجل صنع الحاضر، والتأثير في الأجيال القادمة، حسب هؤلاء السلف انهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم، وتوجيه معاصريهم، ثم مضوا، عليهم من الله رضوان، ومن الناس سلام.
وجاء من بعدهم خلف، أصبح بعد حين سلفا، بعد أن مضى إلى الرفيق الأعلى، مخلفا كذلك تركة من السلوك، ومن الكفاح، هي جزء من تاريخ أمتنا.
وجاء جيلنا ليتوهم، أو ليراد له ان يتوهم، انه مجرد وارث لأجيال سابقة، عليه ان يستغل تركتها في خلق ملذاته، فإذا ما جوبه بتحديات عصره لجا إلى المباهاة بتراثه، المباهاة وحدها، المتمثلة في أكثر الكتابات المنشورة، التي لا تمل ان تحكى وتحكي، حكايات في حكايات، وتقف أحيانا مستعلية من فوق منبر، لتمطر على الحضور وعظا في وعظ، دون ان تبلغ في ظن الجماهير ان تهز وجدانا، أو حتى تحرك قشة.
ان أخص صفات عصرنا هي انه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء، وليس من الضروري ان نتطلب من الأفكار المنتجة ان تكون نافعة دائما كالأشياء، فان المجتمعات التي تصدر الينا أشياء الحضارة ترى في الأفكار سلعة ينبغي ان تتغير كل يوم، كما تتغير طرز الأشياء، ولذلك يقف مثقفونا مبهورين امام موجات الفكر الواردة من الخارج، ماذا يأخذون، وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرؤن، وماذا يترجمون؟.. ولا شئ أكثر من هذا... يكفيهم ان يستطيعوا ملاحقة الأفكار، دون ان يكون عليهم ان يواجهوها، أو ينقدوها، فهم إلى أن يصوغوا نقدا معينا لاحد الاتجاهات الجديدة نسبيا يكون الوقت قد فات، وتقادم بمرور الزمن ما ينقدون، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانا، وأكثر جاذبية واشعاعا.
ومما لاشك فيه أن العالم الاسلامي هدف ثمين من أهداف تصدير الأفكار نظرا إلى موقعه، وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة، أو بعبارة أخرى: مراكز الانتاج، والهدف من وراء التصدير واحد لدى كل هذه المراكز: ان يبقى هدا العالم مفتقرا إليها، على اختلافها، وان يحال بينه وبين أفكاره الأصيلة، التي يمكن ان تغنيه عن الاستيراد، وتحقق له الاكتفاء الذاتي.
ومن المعروف في دوائر الاقتصاد ان الاحتكار إذا تحقق لمركز انتاجي في سوق معينة فان من المتوقع ان يبدأ المنتج في افساد السلعة، بتقليل جودتها، اعتمادا على الاحتكار المتاح له، وطمعا في ربح أوفر. وسوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات، وأكثرها تقبلا للتزييف والافساد، ومن ثم حفلت أسواقنا بما هو أشد فتكا من السموم، وأعظم انتشارا من الهواء، يتخلل كل خلية، وينخر في