ولست أنكر ان محاولات جادة قام بها بعض العلماء القلقين على مصير الانسان، في الشرق والغرب، من أجل البرهنة على وجود الله على أساس علمي، ولكن قضية الدين ليست هي قضية (وجود الله) فحسب. لا مراء في أن الايمان بوجود الله سبحانه أساس ومنبع، ولكنه يستتبع الايمان بقيم أخرى ومبادىء، دعا إليها الرسل. وحثت عليها الأديان، وأهمها ضرورة الايمان بوجود كائنات غير الانسان، دل عليها الدين وسماها (الملائكة) الملهمين الخير، وكائنات أخرى غير الانسان والملائكة دل عليها الدين، وسماها الجن، ومنهم (الشياطين) النازغون بالشر، وضرورة الايمان بالغيب، وباليوم الآخر. وما يتصل به من جنة ونار، وحساب، وثواب وعقاب، بل ما يسبق ذلك من قيامة، هي في حقيقتها دمار للدنيا، وتحطم للكواكب والنجوم، وضرورة التزام شريعة الله، التي جاء بها الرسل، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، متى صح الايمان بوجود الله، مالك الملك، ومنزل التشريع بالحلال والحرام، وفي كلمة واحدة: ضرورة اقرار ما علم من الدين بالضرورة.
وهكذا نجدنا امام كل مترابط لا يمكن انفصام اجزائه الا على طريقة بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ولقد وجد في المجتمع الاسلامي فعلا هذا الصنف من الناس، الذين يحدثونك بأنهم مؤمنون بالله، وكفى، ولا داعي لمطالبتهم بأكثر من هذا!! وهم يواجهون من يدعوهم إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه: بان الهدف من هذه هو تزكية النفس، وعدم إيذاء العباد، فإذا تحقق هذا الهدف بوسيلة أخرى كالثقافة مثلا كان في ذلك غنى عن الالتزام بالتكاليف، لان هذه هي روح الدين!!.. وغاب عنهم، أو تجاهلوا، ان العبادة في حقيقتها ثمرة الايمان بالله، وتأكيد لعبودية الانسان له، وان الله سبحانه قد اختار لعباده ان يخاطبوه ويقدسوه بكيفية معينة، لا خيار لهم فيها، بصرف النظر عن تحقيق مصلحة معينة لهم من العبادة أو عدم تحققها: (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون) (1) فمصلحة الانسان العليا في أن يرضى خالقه بإنفاذ امره، والتزام طاعته.
فهذا صنف من الناس يجتزىء من الدين بما لا يقتضيه تكلفة: أن يقول: آمنت بالله فحسب، وهو يستعمل مسالة تسليمه بوجود الله جل وعلا ذريعة إلى التحلل والانعتاق من سائر قضايا الدين، والصدود عنها، وهو امر ينبغي ان يلحظ على أنه من صميم أزمة الدين في أنفس المثقفين المعاصرين، لان الثقافات الإلحادية قد اتخذت لنفسها خطة لئيمة، فحواها ان دعوة المسلم إلى الكفر تلقي نفورا في المجتمع الاسلامي، ويكاد يكون من المحال احراز تقدم فيه باعتناق هذه الدعوة، ولذا ينبغي ان تكون الخطة أولا تجريد شخص المسلم من الالتزام بالتكاليف، وتحطيم قيم الدين الأساسية في نفسه، بدعوى العلمية والتقدم،