تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٤٩٥
الفصل الحادي والعشرون في علم الإلهيات وهو علم ينظر في الوجود المطلق فأولا في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والامكان وغير ذلك ثم ينظر في مبادئ الموجودات وأنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدأ وهو عندهم علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وأن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الرد عليهم وهو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب الشفاء والنجا وكذلك لخصه ابن رشد من حكماء الأندلس ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها ورد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها ثم بالروحانيات وتوابعها إلى اخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية وجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس وهو صواب لان مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الايمان ومذاهب السلف فيه وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثير ما بين المقامين وذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الانظار العقلية
(٤٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 490 491 492 493 494 495 496 497 498 499 500 ... » »»