تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ١٩
أولئك القوم كلهم بمنحاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد فمما ظنك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلة إلى الحرمة ولقد اتفق المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق والسيوف واللجم والسروج وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم فما ظنك بمشاربهم ويتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول إن شاء الله والله الهادي إلى الصواب. ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنه كان يعاقر الخمر وأنه سكر ليلة مع شربه فدفن في الريحان حتى أفاق وينشدون على لسانه يا سيدي وأمير الناس كلهم * قد جار في حكمه من كان يسقيني إني غفلت عن الساقي فصيرني * كما تراني سليب العقل والدين وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرشيد وشرابهم إنما كان النبيذ ولم يكن محظورا عندهم وأما السكر فليس من شأنهم وصحابته للمأمون إنما كانت خلة في الدين ولقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت ونقل في فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسس ويلتمس الاناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم وثبت أنهما كانا يصليان الصبح جميعا فأين هذا من المعاقرة وأيضا فإن يحيى بن أكثم كان من علية أهل الحديث وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي وخرج عنه الترمذي كتابه الجامع وذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير الجامع فالقدح فيه قدح في جميعهم وكذلك ما ينبزه المجان بالميل إلى الغلمان بهتانا على الله وفرية على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصاص الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه فإنه كان محسودا في كماله وخلته للسلطان وكان مقامه من العلم والدين منزها عن مثل ذلك وقد ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس فقال سبحان الله سبحان الله ومن يقول هذا وأنكر ذلك إنكارا شديدا وأثنى
(١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 ... » »»