والخديعة فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات وربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية لما قلناه أولا وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الامر من كل جانب وأما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك وأما النعمة عليهم والاحسان لهم من جملة الرفق بهم والنظر لهم في معاشهم وهي أصل كبير من التحبب إلى الرعية واعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق في من يكون يقظا شديد الذكاء من الناس وأكثر ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل وأقل ما يكون في اليقظ لأنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعية فيهلكون لذلك قال صلى الله عليه وسلم سيروا على سير أضعفتكم ومن هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الافراط في الذكاء ومأخذه من قصة زياد ابن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق وقال له لم عزلتني يا أمير المؤمنين العجز أم لخيانة فقال عمر لم أعز لك لواحدة منهما ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك عن الناس فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس مثل زياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التعسف وسوء الملكة وحمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب والله خير المالكين وتقرر من هذا أن الكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر كما أن البلادة إفراط في الجمود والطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية والمحمود هو التوسط كما في الكرم مع التبذير والبخل وكما في الشجاعة مع الهوج والجبن وغير ذلك من الصفات الانسانية ولهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان فيقال شيطان ومتشيطن وأمثال ذلك والله يخلق ما يشاء وهو العليم القدير
(١٨٩)