عيون الأنباء في طبقات الأطباء - ابن أبي أصبيعة - الصفحة ١٢٥
قال أبو الوفاء المبشر بن فاتك وكان جالينوس يعتني به أبوه العناية البالغة وينفق عليه النفقة الواسعة ويجري على المعلمين الجراية الكثيرة ويحملهم إليه من المدن البعيدة وكان جالينوس من صغره مشتهيا للعلم البرهاني طالبا له شديد الحرص والاجتهاد والقبول للعلم وكان لحرصه على العلم يدرس ما علمه المعلم في طريقه إذا انصرف من عنده حتى يبلغ إلى منزله وكان الفتيان الذين كانوا معه في موضع التعليم يلومونه يقولون له يا هذا ينبغي أن تجعل لنفسك وقتا من الزمان تضحك معنا فيه وتلعب فربما لم يجبهم لشغله بما يتعلمه وربما قال لهم ما الداعي لكم إلى الضحك واللعب فيقولون شهوتنا إلى ذلك فيقول والسبب الداعي لي إلى ترك ذلك وإيثاري العلم بغضي لما أنتم عليه ومحبتي لما أنا فيه فكان الناس يتعجبون منه ويقولون لقد رزق أبوك مع كثرة ماله وسعة جاهه ابنه حريصا على العلم وكان أبوه من أهل الهندسة وكان مع ذلك يعاني صناعة الفلاحة وكان جده رئيس النجارين وكان جد أبيه ماسحا وقال جالينوس في كتابه في الكيموس الجيد والرديء إن أباه مات ولجالينوس من العمر عشرون سنة وهذا ما ذكره في ذلك الموضع من حاله قال إنك إن أردت تصديقي أيها الحبيب فصدقني فإنه ليس لي علة ولا واحدة تضطرني إلى الكذب فإني ربما غضبت إذا رأيت ناسا كثيرين من أهل الأئمة في الحكمة وفي الكرامة قد كذبوا كثيرا في كتبهم التي وصفوا بها علم الأشياء فأما أنا فأني أقول ولا أكذب إلا ما قد عاينت بنفسي وجربت وحدي في طول الزمان والله يشهد لي إني لست أكذب فيما أقص عليكم أنه قد كان لي أب حكيم فاضل قد بلغ من علم الأمور بلوغا ليست من ورائه غاية أقول من علم المساحة والهندسة والمنطق والحساب والنجوم الذي يسمى أسطرونميا وكان أهل زمانه يعرفونه بالصدق والوفاء والصلاح والعفاف وبلغ من هذه الفضائل التي ذكرت ما لم يبلغها أحد من حكماء أهل زمانه وعلمائهم وكان القيم علي وعلى سياستي وأنا حدث صغير فحفظني الله على يديه بغير وجع ولا سقم وإني لما راهقت أو زدت توجه أبي إلى ضيعة له وخلفني وكان محبا لعلم الأكرة فكنت في تعليمي وأدبي أفوق أصحابي المتعلمين عامة وأتقدمهم في العلم وأتركهم خلفي واجتهد ليلا ونهارا على التعليم فتناولت يوما مع أصحابي فاكهة وتملأت بها فلما كان أول دخول فصل الخريف مرضت مرضا حادا فاحتجت إلى فصد العرق وقدم والدي علي في تلك الأيام ودخل المدينة وجاء إلي فانتهرني وذكرني بالتذكير والسياسية والغذاء الذي كان يغذوني به وأنا صبي ثم أمرني وتقدم إلي فقال اتق من الآن وتحفظ وتباعد من شهوات أصحابك الشباب وكثرتها وإلحاحهم واقتحامهم فلما كان الحول المقبل حرص أبي بحفظ غذائي وألزمنيه ودبرني أيضا وساسني سياسة موافقة فلم أتناول من الفاكهة إلا اليسير منها وأنا يومئذ ابن تسع عشرة سنة فخرجت سنتي تلك بلا مرض ولا أذى ثم أنه نزل بأبي بعد تلك السنة الموت فجلست أيضا مع أصحابي وإخواني من أولئك الشباب فأكلت الفاكهة وأكثرت وتملأت أيضا فمرضت مرضا شبيها
(١٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 ... » »»