الحديث بالبصرة من أبي تمام محمد بن الحسن المقرئ وأبي القاسم الفضل بن محمد بن علي النحوي وأبي القاسم الحسين بن أحمد بن الحسين الباقلاني وغيرهم وقدم بغداد بعد الخمسمائة وحدث بها، يحرف حديثه عن شيوخه، وبالمقامات.
روى عنه الشريف أبو علي الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل على الله وأبو الفضل بن ناصر الحافظ. وكان من الفصاحة والبلاغة وحسن العبارة ورشاقة الألفاظ وملاحة النثر وحلاوة النظم على طريقة لم يسبقه من كان قبله، ولم يدركه من جاء بعده. وجمع المقامات الخمسين التي سارت في الدنيا سير الشمس، وتلقاها الناس بالقبول، وعقد على بلاغتها الخناصر.
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أحمد بن النقور البزاز: سمعت أبا محمد الحريري صاحب (المقامات) يقول: أبو زيد السروجي كان سجاعا بليغا، ورد علينا البصرة، فوقف يوما في مسجد يتكلم، ويسأل الناس شيئا، وكان بعض الولاة حاضرا والمسجد غاص بالفضلاء. فأعجبهم بفصاحته، وذكر أسر الروم ابنته كما ذكرنا في المقامة الحرامية، وهي الثامنة والأربعون، قال: فاجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من الفضلاء، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل من لطافة عبارته في تحصيل مراده فحكى كل واحد من جلسائي أنه شاهد من هذا السائل مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغير في مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون احتياله فضله، فتعجبوا من جرأته في ميدانه وإمعانه في إحسانه.
قال الحريري: فابتدأت في إنشاء المقامة الحرامية تلك حاذيا حذوه، فلما فرغت منها أقرأنيها جماعة من الأعيان، فاستحسنوها في غاية الاستحسان، وأنهوا ذلك إلى وزير السلطان، واقترحوا علي أخواتها، والله المستعان، حكى لما قدم ابن الحريي بغداد وكان الناس يهتفون بفضائله ويسارعون (1) إلى إلقائه وسماع كلامه، فحظر إليه فيمن حضر ابن حكينا (2) الحريمي المنبوز بالبرغوث، فلم يجده على ما كان يظنه من الفصاحة واللسن، فنظم أبياتا، منها:
شيخ لنا من ربيعة الفرس * ينتف عثنونه من الهوس أنطقه الله بالمشان وقد * ألجمه في العراق بالخرس