سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ١٢ - الصفحة ٨٩
وأشرف من صومعته: ما اسمك؟ قال: جريج. قلت: ما يحبسك؟ قال:
حبست نفسي عن الشهوات. قلت: أما كان يستقيم لك أن تذهب معناها هنا، وتجئ وتمنعها الشهوات؟ قال: هيهات!! هذا الذي تصفه قوة، وأنا في ضعف، قلت: ولم تفعل هذا؟ قال: نجد في كتبنا أن بدن ابن آدم خلق من الأرض، وروحه خلق من ملكوت السماء، فإذا أجاع بدنه وأعراه وأسهره وأقمأه نازع الروح إلى الموضع الذي خرج منه، وإذا أطعمه وأراحه أخلد البدن إلى المواضع الذي منه خلق، فأحب الدنيا. قلت: فإذا فعل هذا يعجل له في الدنيا الثواب؟ قال: نعم، نور يوازيه (1). قال: فحدثت بهذا أبا سليمان الداراني، فقال: قاتله الله، إنهم يصفون (2).
قلت: الطريقة المثلى هي المحمدية، وهو الاخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف، كما قال تعالى: * (يا أيها الرسل، كلوا من الطيبات، واعملوا صالحا) * [المؤمنون: 51]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، وآكل اللحم.
فمن رغب عن سنتي فليس مني (3) "، فلم يشرع لنا الرهبانية (4)، ولا

(1) في " حلية الأولياء " 10 / 5: نعم نورا يواريه. (2) " حلية الأولياء " 10 / 5 (3) قطعة من حديث أخرجه البخاري 9 / 89، 90، ومسلم (1401)، والنسائي 6 / 60 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) بل هي من ابتداع من كان قبلنا، ألزموا أنفسهم بها، ومع ذلك فما رعوها حق رعايتها، كما قال سبحانه: * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) * [الحديد: 27]. قال البغوي في قوله تعالى: (ورهبانية): وليس هذا بعطف على ما قبله * (... وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية...) *، وانتصابه بفعل مضمر، كأنه قال: وابتدعوا رهبانية، أي: جاؤوا بها من قبل أنفسهم. وقال ابن كثير في قوله تعالى: * (إلا ابتغاء رضوان الله) *:
فيه قولان: أحدهما أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير وقتادة. والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك، إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
(٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 ... » »»