سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ١١ - الصفحة ٣٢٧
والطاعة. وسرني هذا الابتداء من أبي عبد الله، فقصدت الحارث، وسألته أن يحضر، وقلت، تسأل أصحابك أن يحضروا. فقال: يا إسماعيل، فيهم كثرة فلا تزدهم على الكسب (1) والتمر، وأكثر منهما ما استطعت.
ففعلت ما أمرني، وأعلمت أبا عبد الله فحضر بعد المغرب، وصعد غرفة، واجتهد في ورده، وحضر الحارث وأصحابه، فأكلوا ثم قاموا إلى الصلاة، ولم يصلوا بعدها، وقعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت إلى قريب من نصف الليل، وابتدأ واحد منهم، وسأل عن مسألة، فأخذ الحارث في الكلام، وهم يسمعون. وكأن على رؤوسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يزعق. فصعدت لا تعرف حال أبي عبد الله، وهو متغير الحال، فقلت: كيف رأيت؟ قال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى ما وصفت، فلا أرى لك صحبتهم، ثم قام وخرج.
قال السلمي: سمعت أبا القاسم النصراباذي، يقول: بلغني أن الحارث تلكم في شئ من الكلام، فهجره أحمد، فاختفى في دار مات فيها، ولم يصل عليه إلا أربعة أنفس.
فصل قال ابن الجوزي: كان الامام لا يرى وضع الكتب، وينهى عن كتبة كلامه ومسائله. ولو رأى ذلك، لكانت له تصانيف كثيرة، وصنف " المسند " وهو ثلاثون ألف حديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماما (2). " والتفسير " وهو مئة وعشرون ألفا،

(1) بالضم فالسكون: عصارة الدهن.
(2) قال الحافظ أبو موسى المديني في " خصائص المسند " ص: 21: " وهذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير، ومسموعات وافرة، فجعل إماما ومعتمدا، وعند التنازع ملجأ ومستندا ". ويبلغ عدد أحاديثه أكثر من ثلاثين ألف حديث.
وقال ابن كثير في " الباعث الحثيث ": " وكذلك يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شئ كثير مما يوازي كثيرا من أحاديث مسلم، بل والبخاري أيضا، وليست عندهما ولا عند أحدهما، بل ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة، وهم أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ". قلت: ولم يتوخ الإمام أحمد الصحة في " مسنده " هذا، بل روى فيه الصحيح والحسن والضعيف، يعلم ذلك من دراسة الأسانيد والتخريج. وقد قال ابن الجوزي في " صيد الخاطر ": " ومن نظر في كتاب " العلل " الذي صنفه أبو بكر الخلال، رأى أحاديث كثيرة كلها في " المسند "، وقد طعن فيها أحمد. ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألة النبيذ، قال: إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم، ويدل على ذلك أن عبد الله، قال: قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن خراش عن حذيفة؟
قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد؟ قلت: نعم. قال: الأحاديث بخلافه. قلت: قد ذكرته في " المسند ". قال: قصدت في " المسند " المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشئ بعد الشئ اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شئ يدفعه. قال القاصي:
وقد أخبر عن نفسه كيف طريقه في " المسند "، فمن جعله أصلا للصحة، فقد خالفه، وترك مقصده.
(٣٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 322 323 324 325 326 327 328 329 330 331 332 ... » »»