سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ٥ - الصفحة ٣٦٧
يصنع، فقنع رأسه، وجلس إلى قبر منها، فلم يزل يبكي حتى رحمته، وظننت أنه قبر بعض أهله، ومر بي مرة أخرى، فاتبعته، فقعد إلى جنب قبر غيره، ففعل مثل ذلك. فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر، وقلت: إنما ظننت أنه قبر بعض أهله، فقال محمد: كلهم أهله وإخوته، إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة. قال: ثم جعل محمد يمر بي، فيأتي البقيع، فسلمت عليه ذات يوم، فقال: أما نفعك موعظة صفوان؟ فظننت أنه انتفع بما ألقيت إليه منها.
قال أبو غسان النهدي: سمعت سفيان بن عيينة وأعانه على الحديث أخوه، قال: حلف صفوان ألا يضع جنبه بالأرض حتى يلقى الله. فمكث على ذلك أكثر من ثلاثين عاما، فلما حضرته الوفاة، واشتد به النزع والعلز (1) وهو جالس، فقالت ابنته: يا أبة لو وضعت جنبك، فقال: يا بنية إذا ما وفيت لله بالنذر والحلف، فمات، وإنه لجالس.
قال سفيان: فأخبرني الحفار الذي يحفر قبور أهل المدينة، قال:
حفرت قبر رجل، فإذا أنا قد وقعت على قبر فوافيت جمجمة، فإذا السجود قد أثر في عظام الجمجمة، فقلت لانسان: قبر من هذا؟ فقال: أو ما تدري؟ هذا قبر صفوان بن سليم.
وروى سهل بن عاصم، عن محمد بن منصور قال: قال صفوان بن سليم:
أعطي الله عهدا أن لا أضع جنبي على فراش حتى ألحق بربي، فبلغني أن صفوان عاش بعد ذلك أربعين سنة لم يضع جنبه، فلما نزل به الموت، قيل له: رحمك الله ألا تضطجع؟ قال: ما وفيت لله بالعهد إذا، فأسند فما زال كذلك حتى خرجت نفسه. قال: ويقول أهل المدينة: إنه بقيت جبهته من كثرة السجود.

(1) العلز: القلق والكرب عند الموت، وشبه رعدة تأخذ المريض أو الحريص على الشئ كأنه لا يستقر في مكانه من الوجع.
(٣٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 362 363 364 365 366 367 368 369 370 371 372 ... » »»