علم الأول والآخر بحر علم لا ينزف، وقال كعب الأحبار - كما في الاستيعاب وغيره -: سلمان حشي علما وحكمة إلى آخر ما هو مأثور عنه من أمثال هذه الخصائص، وقد علم الناس ان أبا أيوب الأنصاري لم يكن له من العيش إلا بلغة لا تشغله عن علم ولا عن عمل، وكذلك أبو سعيد الخدري وأبو فضالة الأنصاري وغيرهم من نظائرهم من علماء الأنصار وعظمائهم رضى الله تعالى عنهم.
على أن سيد الحكماء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله لم تكن أوقاته فوضى وإنما كانت في الليل والنهار مرتبة للمهمات على ما تقتضيه الحكمة في تلك الأوقات، وقد خصص منها لالقاء العلم وقتا لا يعارض أوقات الصفق في الأسواق ولا أوقات العمل في الأموال، وكان المهاجرون والأنصار لا يغيبون في ذلك الوقت ابدا وهم أحرص على العلم مما يخرفه المخرفون.
(الثاني): لو صح ما زعمه أبو هريرة (من قول النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه: ان يبط أحد منكم ثوبه حتى أفضى مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئا ابدا) لتسابقوا إليه، واجتمعوا بقضهم وقضيضهم عليه، فإنه الفضل لا يبلغه الطالب بشد الرحال، والعلم لا يناله ببذل الأموال، وما الذي ثبطهم عن نيله؟ ومنعهم عن بسط أثوابهم في سبيله؟ وكيف زهدوا في هذه الغنيمة وضيعوا على أنفسهم تلك الفوائد العظيمة؟ أترى انهم كانوا بهذه المثابة من الزهد في العلم والرغبة عما يدعوهم الرسول إليه؟ كلا! ما هكذا الظن بهم ولا هذا بمشبه لما كانوا عليه من التعبد بأوامره، والمبادرة إلى ما يدعوهم إليه.
(الثالث): لو صح ما زعمه أبو هريرة لعظم ندم الصحابة، وأسفهم على ما ضيعوه من ذلك الفضل الكبير، والعلم الغزير، ولتواتر لهفهم على ما أهملوه من بسط أثوابهم لرسول الله حين انه لا كلفة فيه ولا مشقة عليهم، ولندد بعضهم ببعض، وتلاوموا على تركهم ذلك بسوء اختيارهم ولتواترت منهم