غير أن يكون برهان عقلي على امتناعه بوجه أصلا، وعلى هذا البيان أيضا لا يحتاج في إثبات الرجحان الفعلي عند ارتفاع حيث المنع عن النقيض إلى تكلف إقامة الدليل على قيام الفصل الاستحبابي مقامه، من جهة أنه بعد كونه من قبيل التشكيكيات فلا جرم بذهاب مرتبة منه يلزمه تحدده قهرا بالمراتب الباقية نظير مرتبة خاصة من الحمرة الشديدة التي إذا زالت مرتبة منها باجزاء الماء عليها تبقى مرتبة أخرى منها محدودة بحد خاص، وعليه فيكفي ذهاب خصوص جهة منعه عن النقيض في الحكم ببقاء رجحانه واستحبابه من دون احتياج إلى قيام دليل عليه بالخصوص بوجه أصلا، كما لا يخفى.
وحينئذ فإذا أمكن ثبوتا بقاء أصل جوازه ورجحانه الفعلي ولم يقم دليل عقلي على امتناعه يبقى الكلام في المقام الثاني في أنه هل قضية دليل النسخ رفع الوجوب بجميع مراتبه أو بخصوص مرتبة إلزامه وجهة منعه عن النقيض كي يلزمه بقائه بمرتبة رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض؟ وفي مثله قد يقرب الثاني بدعوى ان القدر المتيقن الذي يقتضيه دليل الناسخ انما هو رفع خصوص جهة إلزامه ففيما عداه يؤخذ حينئذ بدليل المنسوخ ويحكم بمقتضاه باستحبابه، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شئ و دليل آخر على عدم وجوبه فكما انه هناك يجمع بينهما فيؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره في الالزام وجهة المنع عن النقيض كذلك في المقام أيضا فإذا لم يكن لدليل النسخ دلالة على أزيد من رفع الوجوب فلا جرم يؤخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق رجحانه وبذلك يثبت استحبابه، حيث لا نعنى من الاستحباب الا ذلك.
ولكن فيه ان هذا الجمع انما يصح في غير الحاكم والمحكوم واما فيهما فلا يتأتى مثل هذا الجمع بل لا بد من الاخذ بدليل الحاكم ورفع اليد عن دليل المحكوم وإن كان ظهوره أقوى بمراتب من دليل الحاكم. وفي المقام بعد إن كان دليل النسخ ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مدلول دليل المنسوخ بلحاظ تعرضه لرفع الحكم الثابت بدليله فلا جرم بمقتضى نظره وحكومته هذه لا يبقى مجال لملاحظة دليل المنسوخ وأقوائية ظهوره من ظهوره بل في مثله لا بد من الاخذ بدليل الناسخ ورفع اليد عما يقتضيه دليل المنسوخ وإن كان ظهوره أقوى بمراتب من ظهوره، وعليه أيضا لا يبقى مجال استفادة الاستحباب بمثل البيان المزبور بل لا بد حينئذ من التماس دليل آخر في البين، كما هو واضح. ولعل مثل ذلك هو