فهذه الآية الكريمة مخصصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) الحديث، وعليه فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي، ووجه هذا ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ويحتمل أن يكون معنى الإرادة في قوله * (ومن يرد فيه بإلحاد) * العزم المصمم على ارتكاب الذنب فيه، والعزم المصمم على الذنب ذنب يعاقب عليه في جميع بقاع الله مكة وغيرها.
والدليل على أن إرادة الذنب إذا كانت عزما مصمما عليه أنها كارتكابه حديث أبي بكرة الثابت في الصحيح إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) فقولهم: ما بال المقتول: سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه النار مع أنه لم يفعل القتل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) أن ذنبه الذي أدخله النار، هو عزمه المصمم وحرصه على قتل صاحبه المسلم. وقد قدمنا مرارا أن إن المكسورة المشددة: تدل على التعليل كما تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه.
ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه، ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل، بسبب طير أبابيل * (ترميهم بحجارة من سجيل) * لعزمهم على ارتكاب المناكر في الحرم، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه، والعلم عند الله تعالى. والظاهر أن الضمير في قوله * (فيه) * راجع إلى المسجد الحرام، ولكن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك. والله تعالى أعلم.
* (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود * وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق * ذالك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الا نعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الا وثان واجتنبوا قول الزور * حنفآء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق) * قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود) *. أي اذكر حين بوأنا، تقول العرب: بوأت له منزلا، وبوأته منزلا، وبوأته في منزل بمعنى واحد كلها بمعنى: هيأته له، ومكنت له فيه، وأنزلته فيه، فتبوأه: أي نزله، وتبوأت له منزلا أيضا هيأته له، وأنزلته فيه فبوأه المتعدي بنفسه، كقوله تعالى * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) * وقوله * (والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة) * ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: