تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٩ - الصفحة ٥٦
عليه وكيلا) * (الفرقان: 43) إنه عام في كل من مال إلى هوس نفسه واتبعه فيما توجه إليه، ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى إنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا إليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فأمعن النظر فإذا هي قد ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها، وقيل في قوله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * الآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام * (ولو شاء لجعله ساكنا) * (الفرقان: 45) في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد، وفي قوله تعالى: * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * (الفرقان: 46) إشارة إلى أن كل مركب فإنه سينحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير؛ وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود. وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه إليه عز وجل، وفي قوله تعالى: * (ثم جعلنا) * إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى: * (أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) * (فصلت: 53) وهذه مرتبة الصديقين.
وقوله سبحانه: * (ثم قبضناه) * كقوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) * (وألا إلى الله تصير الأمور) * (الشورى: 53) وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائما لا يزول، وإنما يستدل على الذهول بالعرفان، وفي قوله تعالى: * (ثم قبضناه) * إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف * (هو الذي جعل لكم الليل لباسا) * تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات * (والنوم سباتا) * راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات * (وجعل النهار نشورا) * (الفرقان: 47) تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم * (وهو الذي أرسل الرياح) * أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب * (بشرا بين يدي رحمته) * من التجليات والكشوف * (وأنزلنا) * (الفرقان: 48) من سماء الكرم ماء حياة العرفان * (لنحيي به بلدة ميتا) * أي قلوبا ميتة * (ونسقيه مما خلقنا أنعاما) * وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات * (وأناسي كثيرا) * (الفرقان: 49) وهم الذين سكنوا إلى رياض الأنس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية * (ولقد صرفناه) * أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم * (ليذكروا) * به موطنهم الأصلي * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * (الفرقان: 50) بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها * (وهو الذي مرج البحرين) * بحر الروح وبحر النفس * (هذا) * وهو بحر الروح * (عذب فرات) * من الصفات الحميدة الربانية، و * (هذا) * وهو بحر النفس * (ملح أجاج) * من الصفات الذميمة الحيوانية * (وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) * (الفرقان: 53) فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة.
وذكر أن البرزخ هو القلب، وقال ابن عطاء: تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب، وقيل: البحر العذاب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لا حرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك
(٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 ... » »»