إنفاقهم كذلك للتنصيص على أن فعلهم من خير الامور فقد شاع خير الأمور أوساطه، والظاهر أن المراد بالإنفاق ما يعم إنفاقهم على أنفسهم وإنفاقهم على غيرها والقوام في كل ذلك خير، وقد أخرج أحمد. والطبراني. عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من فقه الرجل رفقه في معيشته ".
وأخرج ابن ماجه في سننه عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت " وحكى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز عليه الرحمة حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر: الحسنة بين السيئتين ثم تلا الآية. وقد مدح الشعراء التوسط في الأمور والاقتصاد في المعيشة قديما وحديثا، ومن ذلك قوله: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد * كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقول حاتم: إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقول الآخر: إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت * ولم ينهها تافت إلى كل باطل وساقت إليه الأثم والعار بالذي * دعته إليه من حلاوة عاجل إلى غير ذلك:
* (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذالك يلق أثاما) * * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر) * أي لا يشركون به غيره سبحانه.
* (ولا يقتلون النفس التي حرم الله) * أي حرمها الله تعالى بمعنى قتلها لأن التحريم إنما يتعلق بالأفعال دون الذوات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم * (إلا بالحق) * متعلق بلا يقتلون والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي لا يقتلونها بسبب من اللأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كالزنا بعد الأحصان والكفر بعد الإيمان، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يقتلونها نوعا من القتل إلا قتلا ملتبسا بالحق وأن يكون حالا أي لا يقتلونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق.
وقيل: يجوز أن يكون متعلقا بالقتل المحذوف والاستثناء أيضا من أعم الأسباب أي لا يقتلون النفس التي حرم الله تعالى قتلها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق. ويكون الاستثناء مفرغا في الإثبات لاستقامة المعنى بإرادة العموم أو لكون حرم نفيا معنى. ولا يخفى ما فيه من التكلف * (ولا يزنون) * ولا يطؤن فرجا مجرما عليهم، والمراد من نفي هذه القبائح العظيمة التعريض بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم وإلا فلا حاجة إليه بعد وصفهم بالصفات السابقة من حسن المعاملة وإحياء الليل بالصلاة ومزيد خوفهم من الله تعالى لظهور استدعائها نفي ما ذكر عنهم. ومنه يعلم حل ما قيل الظاهر عكس هذا الترتيب وتقديم التخلية على التحلية فكأنه قيل: والذين طهرهم الله تعالى وبرأهم سبحانه مما أنتم عليه من الإشراك وقتل النفس المحرمة كالموؤدة والزنا.
وقيل: إن التصريح بنفي الإشراك مع ظهور إيمانهم لهذا أو لإظهار كمال الاعتناء والإخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه، وقد صح من رواية البخاري. ومسلم. والترمذي عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: تم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق ذلك * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * (الفرقان: 68) الآية.