تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٩ - الصفحة ١٨٦
لا يعد قصورا، وهذا قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة، ثم أن الإنصاف بعد كل كلام يقتضي الإقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضا في غير الإمام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح وإلا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك.
* (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين) * * (فمكث غير بعيد) * الظاهر أن الضمير للهدهد و * (بعيد) * صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل: ما مضى من غيبته بعد التهديد؟ فقيل: مكث غير بعيد أي مكث زمانا غير مديد، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، وقيل: الضمير لسليمان وهو كما ترى، وقيل: * (بعيد) * صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان، وجعله صفة الزمان أولى، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واسمه فيما قيل عفير واقعا فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: على به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك على إلا رحمتني فتركته وقالت: ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال: وما استثنى؟ بلى قال: * (أو ليأتيني بسلطان مبين) * فقال: نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه، وعن عكرمة أنه إنما عفا لأنه كان بارا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما، ثم سأله:
* (فقال أحطت بما لم تحط به) * أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإضغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبىء عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل، وأيد ذلك بقوله: * (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) * حيث فسر ابهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه، وقال الزمخشري: إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ليتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفا له في ترك الاعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى، وتعقب بأن ما أحاط به من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها إلا على جرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكى عنه ما حكى من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الإلهي تنبيهه عليه السلام على تركه واعترض بأن قوله: * (أحطت) * الخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالأمور المحسسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه وإلقاء الريح الأخبار في سمعه يدل على ما يدل، وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو ما يناسب دعاؤه السابق بقوله: * (رب اوزعني أن أشكر نعمتك) * (النمل: 19)، ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولا. و * (سبأ) * منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
(١٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 181 182 183 184 185 186 187 188 189 190 191 ... » »»