تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ٨٧
قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الإطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم. ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صوما لا يكلم اليوم انسيا فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون وله من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإنه خير لك. والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى: * (فلن أكلم اليوم انسيا) * أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تلكم انسيا بغير هذا الأخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمندور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة: امرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل: وهو الأظهر. قال الفراء: العرب تسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأن طريق وصل ما لم يأكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى: * (انسيا) * دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم انسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي. وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
* (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا) * * (فأتت به قومها تحمله) * أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا. والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها. وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور. وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل: إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا، وقيل: هموا يرجمها حتى تلكم عيسى عليه السلام. وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال: لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم بجدوها فاتهموه فاخذوه ووبخوه فقال رجل: إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان. فظاهر الآية والاخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم، وقيل: أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما * (قالوا يا مريم لقد جئت) * فعلت * (شيئا فريا) * قال قتادة: عظيما، وقيل: عجيبا. وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد، وقيل: من أفراه كذلك. واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي. وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس.
وفي الصحاح عن الكسائي أن الفرى القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد. وعن الراغب مثل ذلك. وقيل الإفراء عام. وإيا ما كان فقد استعير الفرى لما ذكر في تفسيره. وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا، ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه، وفي المثل جاء يفري الفرى. ونصب * (شيئا) * على أنه مفعول به. وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا، وعبر عنه بالشيء تحقيقا للاستغراب.
(٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 ... » »»