تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ٢٠١
وقوله تعالى: * (الذي أعطى كل شيء خلقه) * خبره، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا والموصول صفته، والظاهر أنه عليه السلام أراد بضمير المتكلم نفسه وأخاه عليهما السلام.
وقال بعض المحققين: أراد جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا على اللعين كما يفصح عنه ما في حيز الصلة و * (كل شيء) * مفعول أول لأعطى و * (خلقه) * مفعوله الثاني وهو مصدر بمعنى اسم المفعول والضمير المجرور لشيء والعموم المستفاد من * (كل) * يعتبر بعد إرجاعه إليه لئلا يرد الاعتراض المشهور في مثل هذا التركيب، والظاهر أنه عموم الأفراد أي أعطى كل شيء من الأشياء الأمر الذي طلبه بلسان استعداده من الصورة والشكل والمنفعة والمضرة وغير ذلك أو الأمر اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع المطابق له كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الأبصار والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه، وقيل: الخلق باق على مصدريته بمعنى الايجاد أي أعطى كل شيء الايجاد الذي استعد له أو اللائق به بمعنى أنه تعالى أوجد كل شيء حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وهو كما ترى.
وحمل بعضهم العموم على عموم الأنواع دون عموم الأفراد، وقيل: إن ذلك لئلا يلزم الخلف ويرد النقض بأن بعض الأفراد لم يكمل لعارض يعرض له، والحق أن الله تعالى راعى الحكمة فيما خلق وأمر تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة كما نقل " صاحب المواقف " و " عيون الجواهر " فكل شيء كامل في مرتبته حسن في حد ذاته فقد قال تعالى العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء * (خلقه) * وجعل العموم في هذا عموم الأنواع مما لا يكاد يقول به أحد، وقال سبحانه: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * (الملك: 3) أي من حيث إضافته إلى الرحمن وخلقه إياه على طبق الحكمة بمقتضى الجودة والرحمة، والتفاوت بين الأشياء إنما هو إذا أضيف بعضها إلى بعض فالعدول عما هو الظاهر من عموم الأفراد إلى عموم الأنواع لما ذكر ناشيء من قلة التحقيق، وقيل: إن سبب العدول كون * (أعطى) * حقيقة في الماضي فلوحمل كل شيء على عموم الأفراد يلزم أن يكون جميعه قد وجد وأعطى مع أن منها بل أكثرها لم يوجد ولم يعط بعد بخلاف ما إذا حمل على عموم الأنواع فإنه لا محذور فيه إذ الأنواع جميعها قد وجد ولا يتجدد بعد ذلك نوع وإن كان ذلك ممكنا وفيه بحث ظاهر فليفهم.
وروى عن ابن عباس. وابن جبير. والسدي أن المعنى أعطى كل حيوان ذكر نظيره في الخلق والصورة أنثى وكأنهم جعلوا كلا للتكثير وإلا فالعموم مطلقا باطل كما لا يخفى، وعندي أن هذا المعنى من فروع المعنى السابق الذي ذكرناه، ولعل مراد من قاله التمثيل وإلا فهو بعيد جدا ولا يكاد يقوله من نسب إليه.
وقيل: * (خلقه) * هو المفعول الأول والمصدر بمعنى اسم المفعول أيضا، والضمير المجرور للموصول و * (كل شيء) * هو المفعول الثاني والمعنى أعطى مخلوقاته سبحانه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، وقدم المفعول الثاني للاهتمام به من حيث أن المقصود الامتنان به ونسب هذا القول إلى الجبائي، والأول أظهر لفظا ومعنى.
وقرأ عبد الله. وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو نهيك. وابن أبي إسحق. والأعمش. والحسن. ونصري عن الكسائي. وابن نوح عن قتيبة وسلام * (خلقه) * على صيغة الماضي المعلوم
(٢٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 ... » »»