أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى. وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام، وستذكر ان شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به، وقال السدى: هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * (الإنسان: 30) ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل * (شاء) * في الشرطيتين ضميره تعالى، واحتج له بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الآية: من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر.
والحق أن الفاعل ضمير * (من) * والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان ان من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) * (التوكير: 9) والله تعالى أعلم. وقرأ أبو السمال قعنب * (وقال الحق) * بفتح اللام حيث وقع، قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية. وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف، وقرأ أيضا * (الحق) * بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير القول الحق و * (من ربكم) * قيل حال أي كائنا من ربكم، وقيل: صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث.
وقرأ الحسن. وعيسى الثقفي * (فليؤمن وليكفر) * بكسر لام الأمر فيهما * (إنا أعتدنا للظالمين) * للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديديد، وجعلها من جعل * (فمن شاء) * الخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر. وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم، و * (أعتدنا) * من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه، وقيل: أصله أعددنا فابدل من احدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم * (نارا) * عظيمة عجيبة * (أحاط بهم سرادقها) * أي فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح، وقيل: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة، والمروى عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم، واحتج له بما أخرجه أحمد. والبخاري في التاريخ. وابن أبي حاتم وصححه. والبيهقي في البعث. وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن البحر هو من جهنم ثم تلا نارا أحاط بهم سرادقها " والسرادق قال الراغب