تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ٢٦٠
ولملئت منهم رعبا) * كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروى عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
* (وكذلك بعثناهم) * رددناهم إلى الصحو بعد السكر * (ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل: إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة، ويقال: مقام الحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضي من الحبيب وطروان فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل: أعد الليالي ليلة بعد ليلة * وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر إيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف) * والإشارة فيه أولا: إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا: إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم: * (بورقكم هذه) * فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروى فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا: إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأحل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم هي جمرات ولكن تطفىء حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعا: إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم: * (وليتلطف) * بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.
وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل: أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كلما تجد.
لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المؤكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم * (ولا يشعرن بكم أحدا) * (الكهف: 19)
(٢٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 265 ... » »»