تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ١٦٠
النفس ليست موجودة قبل البدن، وأما الثاني فباطل أيضا لأن كل موجود يكون وجوده معلول شيء كان عدمه معلول عدم ذلك الشيء إذ لو انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن تلك العلة كافية في إيجابها فلا تكون العلة علة بل جزء من العلة هذا خلف فإذا لو كان البدن معلولا لامتنع عدم البدن إلا لعدم النفس، والتالي بطلان البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن تكون النفس علة للبدن، وباطل أيضا أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل كما عرف أربع ومحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس فإنه لا يخلو إما أن يكون علة فاعلية لوجود النفس بمجرد جسميته أو لأمر زائد على جسميته والأول باطل وإلا لكان كل جسم كذلك، والثاني باطل أما أولا فلما ثبت أن الصور المادية إنما تفعل بواسطة الوضع وكل ما لا يفعل إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل أفعالا مجردة عن الحيز والوضع، وأما ثانيا فلأن الصور المادية أضعف من المجرد القائم بنفسه والأضعف لا يكون سببا للأقوى ومحال أن يكون البدن علة قابلية لما ثبت أن النفس مجردة مستغنية عن المادة، ومحال أن يكون علة صورية للنفس أو تمامية فإن الأمر أولى أن يكون بالعكس فإذا ليس بين البدن والنفس علاقة واجبة الثبوت أصلا فلا يكون عدم أحدهما علة لعدم الآخر.
فإن قيل: ألستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس؟ فنقول: قد بين أن الفاعل إذا كان منزها عن التغير ثم صدر عنه الفعل بعد أن كان غير صادر فلا بد وأن يكون لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك الشرط لما كان شرطا للحدوث فقط وكان غنيا في وجوده عن ذلك الشيء استحال أن يكون عدم ذلك الشرط مؤثرا في عدم ذلك الشيء، ثم لما اتفق أن كان ذلك الشرط مستعدا لأن يكون آلة للنفس في تحصيل الكمالات والنفس لذاتها مشتاقة إلى الكمال لا جرم حصل للنفس شوق طبيعي إلى التصرف في ذلك البدن والتدبير فيه على الوجه الأصلح ومثل ذلك لا يمكن أن يكون عدمه علة لعدم ذلك الحادث بل ذهب الفلاسفة إلى استحالة انعدام النفس وبرهنوا على ذلك بما برهنوا وعندنا لا استحالة في ذلك.
البحث الخامس في تمايز الأرواح بعد مفارقتها الأبدان: نص ابن القيم على أن كل روح تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها وأن تمايز الأرواح أعظم من تمايز الأبدان إلا أنه زعم أنه لا يمكن التمايز بينها على القول بأنها جوهر مجرد عن المادة وفيه نظر فإن القائلين بذلك قائلون بالتمايز أيضا باعتبار ما يحصل لها من التعلق بالبدن أو بنحو آخر من التمايز، وذكر الشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله أن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها وإلى ذلك الإشارة بالطير الخضر في حديث الشهداء ففي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر في الجنة أي أنها تكون في أبدان على تلك الصور، ويؤيد ذلك رواية ابن ماجه عن ابن مسعود أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر، وفي لفظ عن كعب أرواح الشهداء طير خضر، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول أن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة، وعلى هذا يكون إنكار قوم من المتكلمين خبر في أجواف طير وكذا خبر في عصافير لما في ذلك من تعلق روحين في بدن واحد وقد قالوا باستحالته ناشئا من عدم التأمل والتثبت لأنه على ما قررنا لا يكون للطائر روح غير روح الشهيد على أنه لو بقي الخبر على ظاهره لم يلزم محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه فتدبر.
(١٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 165 ... » »»