تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ١٥٦
الثاني أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به، ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة. وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب الأصفهاني. وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك، ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي. وشهاب الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث المشرقية وغيره، وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدا يهب للروح روحا ويورث للصدر شرحا، واستدل الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال: إن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال: هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب، منها قوله تعالى: * (ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) وقوله سبحانه: * (وكلمته ألقاها إلى مريم) * (مريم: 171) فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عريا عن الملابس الحسية، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: " أنا النذير العريان " ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الإجرام، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن وفي رواية " على صورته "، وقوله عليه الصلاة والسلام: " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات مجردا عن علائق الإجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت بن قرة يقول: إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انقصلت عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده.
البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه: أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قبل منهم محمد بن نصر المروزي. وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعا وقد افترى، واستدل لذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " قال ابن الجوزي في تبصرته: قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الإخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة.
وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده، وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد، ومن أدلة ذلك كما قال ابن القيم
(١٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 ... » »»