تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ١٥٨
النفس ناسوتية والروح لاهوتية، وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن قوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وظاهر كلام بعض محققي الصوفية القول بالمغايرة ففي منتهى المدارك للمحقق الفرغاني أن النفس المضافة إلى الإنسان عبارة عن بخار ضبابي منبعث من باطن القلب الصنوبري حامل لقوة الحياة متجنس بأثر الروج الروحانية المرادة بقوله تعالى: * (ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) الثابت تعينها في عالم الأرواح وأثرها واصل إلى هذا البخار الحامل للحياة فالنفس إذن أمر مجتمع من البخار ووصف الحياة وأثر الروح الروحانية وهذه النفس بحكم تجنسها بأثر الروح الروحانية متعينة لتدبير البدن الإنساني قابلة لمعالي الأمور وسفاسفها كما قال سبحانه وتعالى: * (فألهمها فجورها وتقواها) * (الشمس؛ 8) والروح الروحانية أمر لا يكتنه والحق أنهما قد يتحدان إطلاقا وقد يتغايران، وابن القيم اعتمد ما عليه الأكثرون من الاتحاد ذاتا، وذكر غير واحد أنه هو الذي عليه الصوفية بيد أنهم قالوا: إن النفس هي الأصل في الإنسان فإذا صقلت بالرياضة وأنواع الذكر والفكر صارت روحا ثم قد تترقى إلى أن تصير سرا من أسرار الله تعالى.
وتفصيل الكلام حينئذ في هذا المقام أن للنفس مراتب تترقى فيها، الأولى: تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية من القيام والصيام وغيرهما، الثانية: تهذيب الباطن عن الملكات الردية والأخلاق الدنية، الثالثة: تحلي النفس بالصور القدسية، الرابعة: فناؤها عن ذاتها وملاحظتها جلال رب العالمين جل جلاله، ويقال في كيفية الترقي في هذه المراتب أن الإنسان أول ما يولد فهو كباقي الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له باقي صفات النفس من الشهوة. والغضب. والحرص. والحسد وغير ذلك من الهيآت التي هي نتائج الاحتجاب والبعد من معدن الجود والصفات الكمالية ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وقام من نوم الجهل وبان له أن وراء هذه اللذات البهيمية لذات أخر وفوق هذه المراتب مراتب أخر كمالية يتوب عن اشتغاله بالمنهيات الشرعية وينيب إلى الله تعالى بالتوجه إليه فيشرع في ترك الفضول الدنيوية طلبا للكمالات الأخروية ويعزم عزما تاما ويتوجه إلى السلوك إلى ملك الملوك من مقام نفسه فيهاجر منه ويقع في الغربة ويا طوبى للغرباء وإن قيل: إنما الغربة للأحرار ذبح ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما يعوقه عن مقصوده ويصده عن معبوده فيتصف بالورع والتقوى والزهد الحقيقي ثم يحاسب نفسه دائما في أقواله وأفعاله ويتهمها في كل ما تأمر به وإن كان عبادة فإنها مجبولة على حب الشهوات ومطبوعة على الدسائس الخفيات فلا ينبغي أن يأمنها ويكون على ثقة منها.
يحكى عن بعض الأكابر أن نفسه لم تزل تأمره بالجهاد وتحثه عليه فاستغرب ذلك ثم فطن أنها تريد أن تستريح من نصب القيام والصيام بالموت فلم يجبها إلى ذلك فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه ويظهر له لوامع أنوار الغيب وينفتح له باب الملكوت وتلوح منه لوائح مرة بعد أخرى فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية فإذا ذاق شيئا منها يرغب في العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة والعبادة والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن الملاذ الحسية كلها ويفرغ القلب عن محبتها فيتوجه باطنه إلى الحق تعالى بالكلية فيظهر له الوجد والسكر والشوق والعشق والهيمان ويجعله فانيا عن نفسه غافلا عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق بالمشاهدة والمعاينة والمكاشفة ويظهر له أنوار
(١٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 ... » »»