والالجاء كما قال إبليس: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم، وقيل: يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في أخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله: * (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) * (إبراهيم: 22) وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم؛ وكان الظاهر - فقالوا لهم أنكم لكاذبون - إلا أنه عدل إلى ما في " النظم الكريم " للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من الإشعار بالحرص على تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الجملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون.
* (وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) * .
* (وألقوا) * أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعا، والأكثرون على الأول * (إلى الله يومئذ السلم) * الاستسلام الانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذا ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو أنه قرأ * (السلم) * بإسكان اللام، قرأ مجاهد السلم بضم السين واللام * (وضل عنهم) * ضاع وبطل * (ما كانوا يفترون) * من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) * (النحل: 54) بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه * (ليكفروا بما آتيناهم) * من النعمة بالغفلة عن منعها * (فتمتعوا فسوف تعلمون) * (النحل: 55) وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء * (ويجعلون لما لا يعلمون) * فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي * (نصيب مما رزقناهم) * (النحل: 56) فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا * (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) * (النحل: 66) الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * (النحل: 67) على ما فيه أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والانس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت * لعادت إليه الروح وانتعش الجسم * (وأوحى ربك إلى النحل) * قيل أي نحل الأرواح * (أن اتخذي من الجبال) * أي جبال أنوار الذات * (بيوتا) * مقار لتسكنين فيها * (ومن الشجر) * أي ومن أشجار أنوار الصفات * (ومما يعرشون) * (النحل: 68) أنوار عروش الأفعال * (ثم كلي من كل الثمرات) * أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الأفعالية * (فاسلكي سبل ربك) * وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه * (ذللا) * منقادة لما أمرت به * (يخرج من بطونها شراب) * وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه * (مختلف