وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (تسلمون) * بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر والبرد، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى: * (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) * إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة: اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه: * (لعلكم تسلمون) * اللهم هذا فلا فنزلت.
* (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) * .
* (فإن تولوا) * فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات * (فإنما عليك البلاغ المبين) * أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية: تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون * (تولوا) * مضارعا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه: إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة.
* (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) * .
* (يعرفون نعمت الله) * استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أن من الله تعالى * (ثم ينكرونها) * بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد أنه قال: إنكارهم إياها قولهم: ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب، وقيل: قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكروه ذلك ويجحدونه عنادا، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: هو نبي.
ومعنى * (ثم) * الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه: * (وأكثرهم الكافرون) * أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم بمطلق الكفر المئذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل: المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادا، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي