إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء، ولعل الأول أولى، وفي " الكشف " إن في قوله: * (إني توكلت) * الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل، وما يعطيه أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله: * (ربي وربكم) * فكيف يصاف من لزم سدة العبودية وينجو من تولى مع ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيخه بقوله: * (ما من دابة) * إلى تمام التمثيل فإنه في الاقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى، وما فيه من تصوير ربوبيته واقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهره أيا ما كان، والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناءا على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم، وفي قوله: * (ربي) * من غير إعادة * (وربكم) * كما في الأول نكتة سرية بعد اختصار المعنى عن الحشو فيه ما يدل على زيادة اختصاصه به وأنه رب الكل استحقاقا وربه دونهم تشريفا وإرفاقا.
* (فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شىء حفيظ) * * (فإن تولوا) * أي تتولوا فهو مضارع حذف منه إحدى التاءين وحمل على ذلك لاقتضاء أبلغتكم له، وجوز ابن عطية كونه ماضيا، وفي الكلام التفات ولا يظهر حسنه ولذا قدر غيره ممن جعله كذلك فقل أبلغتكم لكنه لا حاجة إليه، ويؤيد ذلك قراءة الأعرج. وعيسى الثقفي * (تولوا) * بضم التاء واللام مضارع ولى، والمراد فإن تستمروا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض لوقوع ذلك منهم فلا يصلح للشرط، وجوز أن يبقى على ظاهره بحمله على التولي الواقع بعدما حجهم، والظاهر أن الضمير لقوم هود والخطاب معهم، وهو من تمام الجمل المقولة قبل، وقال التبريزي: إن الضمير لكفار قريش وهو من تلوين الخطاب، وقد انتقل من الكلام الأول إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنه قيل: أخبرهم عن قصة قوم هود وادعهم إلى الإيمان بالله تعالى لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود عليه السلام * (فإن تولوا) * فقل لهم - قد أبلغتكم - الخ وهو من البعد بمكان كما لا يخفى، وقوله سبحانه: * (فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) * دليل جواب الشرط أي إن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ فإن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول، وقيل: التقدير إن تتولوا فما علي كبيرهم منكم فإنه قد برئت ساحتي بالتبليغ وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان، وقيل: إنه الجزاء باعتبار لازم معناه المستقبل باعتبار ظهوره أي فلا تفريط مني ولا عذر لكم، وقيل: إنه جزاء باعتبار الإخبار لأنه كما يقصد ترتب المعنى يقصد ترتب الإخبار كما في * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (النحل: 53) على ما مر وكل ذلك لما أن الإبلاغ واقع قبل توليهم، والجزاء يكون مستقبلا بالنظر إلى زمان الشرط.
وزعم أبو حيان أن صحة وقوعه جوابا لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب، ويدل على ذلك الجملة الخبرية، وهي قوله سبحانه:
* (ويستخلف ربي قوما غيركم) * وفيه منع ظاهر، وهذا كما قال غير واحد: استئناف بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم وهو استئناف نحوي عند بعض بناءا على جواز تصديره بالواو.
وقال الطيبي: المراد به أن الجملة ليست بداخلة في الجملة الشرطية جزاءا بل تكون جملة برأسها معطوفة على الجملة الشرطية وهو خلاف الظاهر من العبارة، وعليه تكون مرتبة على قوله سبحانه: * (إن ربي على صراط مستقيم) * والمعنى أنه على العدل ينتقم منكم ويهلككم، وقال الجلبي: لا مانع عندي من حمله على الاستئناف