تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٢ - الصفحة ٢٠٢
الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا * (والله المستعان) * أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السلام للاستعانة المستمرة * (على ما تصفون) * متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعمته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * (الصافات: 180) بل قيل: إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة بوسف عليه السلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * (يوسف: 83) بعد قوله فيما بعد: * (فصبر جميل) *، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الإفك: والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل: المراد إنه تعالء المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السلام بعد أن قال: صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جل وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله: * (فصبر جميل) * يجرى مجرى * (إياك نعبد) * * (والله المستعان على ما تصفون يجري مجرى * (وإياك نستعين) * ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو: أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لاسيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السلام التفتيش والسعى في تخليص يوسف عليه السلام من البلية والشدة إن كان حيا، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه بل قد يقال: إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله: * (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) * (يوسف: 6) فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضا إنه عليه السلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلا مذموم عقلا وشرعا؟ ثم قال: والجواب أن نقول: لا جواب عن ذلك إلا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا طلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن أنتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله: قومي هم قتلوا أميم أخي * فإذا رميت يصيبني سهمي ولئن عفوت لأعفون جللا * ولئن سطوت لموهن عظمي فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا: إنه عليه السلام كان عالما بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله.
(٢٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 207 ... » »»