لظلمهم وقانونا لعدوانهم، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه، وادعى الفاضل الجلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء، فقال: إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزات للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.
وتعقب بأن حمل هذين اللفظين - وقد تكررا - في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن لذلك، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: * (يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم) * انتهى.
وفي ورود ما تعقب به أولا تأمل فتأمل، وقوله تعالى: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا فهو تذييل وتتميم لما تقدم، وكذا قوله سبحانه: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * فإن العثى يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد، وفعله من باب رمي. وسعي. ورضى، وجاء واويا. ويائيا، ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما، والتصريح بهذا انلهي بعد ما علم في ضمن النهي، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق، وقيل: المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم، و - العثى - السرقة وقطع الطريق والغارة، و * (مفسدين) * حال من ضمير * (تعثوا) *، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام. وخرق السفينة فهو حال مؤسسة، وقيل: ليس الفائدة الاخراج المذكور فإن المعنى - لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم - ومآل ذلك على ما قيل: إلى تعليل النهي كأنه قيل: لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم.
* (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ) * * (بقيت الله) * قال ابن عباس: أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء * (خير لكم) * مما تجمعون بالبخس. فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير * (إن كنتم مؤمنين) * أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلا، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق.
وقال الربيع هي وصيته تعالى، وقال مقاتل: ثوابه في الآخرة، وقال الفراء: مراقبته عز وجل، وقال قتادة: ذخيرته، وقال الحسن: فرائضه سبحانه.
وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال: المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة * (بقية) *