تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١١ - الصفحة ٥٦
ورفعوا الوسائط * (ثم تاب عليهم) * (التوبة: 118) حيث رأى سبحانه انقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه، وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية واحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ما عراهم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم * (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) * (الشورى: 28)، وما أحلى قوله: هجروا والهوى وصال وهجر * هكذا سنت الغرام الملاح * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * في جميع الرذائل بالاجتناب عنها * (وكونوا مع الصادقين) * (التوبة: 119) نية وقولا وفعلا أي اتصفوا بما اتصفوا به من الصدق، وقيل: خالطوهم لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدى.
وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة، وقد يقال: الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى: * (رجال صدقوا ما عاهدوا الله) * (الأحزاب: 23) ثم في عقد العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل: * (إنه كان صادق الوعد) * (مريم: 54) وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة؛ وضده الكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا: لا مروءة لكذوب * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) * (التوبة: 122) إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهرا فلفوات المصالح وأما باطنا فلعدم الاستعداد للجميع.
والفقه من علوم القلب. وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات واتباع الشريعة، فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى، ألا ترى كيف نفى الله عمن خشي غيره سبحانه الفقه فقال: * (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) * (الحشر: 13) وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه، وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب، ضاربة عروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف ما يقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر، وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام: لا تقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم. وجاء " من اتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه " وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدهم الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ما داموا على تلك الحال ولو ضربوا رؤوسهم بألف صخرة صماء، وعطف سبحانه قوله: * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * على قوله تعالى: * (ليتفقهوا) * إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها * فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدي * بالقول منك وينفع التعليم ولذا قال جل وعلا: * (لعلهم يحذرون) * (التوبة: 122) وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) *
(٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 ... » »»