تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١١ - الصفحة ٥٥
لقربه سبحانه. فقد جاء في الخبر " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " وقد يقال: الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعون منه، وما أحسن ما قيل:
لو يسمعون كما سمعت كلامها * خروا لعزة ركعا وسجودا * (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) * أي الداعون الخلق إلى الحق والدافعون لهم عما سواه، فإن المعروف على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر * (والحافظون لحدود الله) * أي المراعون أوامره ونواهيه سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدود الله المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم، وقيل: هم القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات.
وفي الآية نعي على أناس ادعوا الانتظام في سلك حزب الله تعالى وزمرة أوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على اختلاف فرقهم حتى عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب، وقالوا: إن تضييعها زندقة. وقد خالطتهم فرأيت منهم * خبائث بالمهيمن نستجير ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتربهم * (وبشر المؤمنين) * (التوبة: 112) بالإيمان الحقي المقيمين في مقام الاستقامة واتباع الشريعة * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * أي ما صح منهم ذلك ولا استقام فإن الوقوف عند القدر من شأن الكاملين.
ومن هنا قيل: لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من الفعل والترك سكن تحت كهف الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده، وهو الذي يقتضيه مقام العبودية المحضة الذي هو أعلى المقامات ودون ذلك مقام الإدلال، ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره في هذا المقام وله كلمات تشعر بذلك لكن لم يتوف قدس سره حتى انتقل منه إلى مقام العبودية المحضة كما نقل مولانا عبد الوهاب الشعراني في " الدرر واليواقيت "، وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا أبي السعود الشبلي قدس سره * (وما كان الله ليضل قوما) * أي ليصفهم بالضلال عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا بحكمه * (بعد إذ هداهم) * إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره * (حتى يبين لهم ما يتقون) * أي ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم وكل مرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب اتقائه أضلهم لارتكابهم ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا * (إن الله بكل شيء عليم) * (التوبة: 115) فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد.
* (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) * (التوبة: 116) لا يخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه بحسب مقامه، وذكر بعضهم أن التوبة إذا نسبت إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح الباب ورفع الحجاب * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) * وذلك لاستشعار سخط المحبوب * (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) * أي تحققوا ذلك فانقطعوا إليه سبحانه
(٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 ... » »»