وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غنى بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال: غنى بالمكان طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره، وقول بعضهم في بيان الآية: إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل: الذي كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل: إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو * (الله يبسط الرزق) * (الرعد: 26) والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا الإهلاك المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه، وقوله تعالى: * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، واستفادة الحصر هنا أوشح من استفادته فيما تقدم، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم * (لئن اتبعتهم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) * فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: * (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه) * (هود: 94) الخ، وفي " الكشاف " أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء، والظاهر أن مجموع الاسئنافين مؤذن به. وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتكرهم هامدين لا حراك بهم على التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل: * (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) * أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها. ثم سأل أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله: أن التي ضربت بيتا مهاجرة * بكوفة الجند غالبت ودها غول وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ماجعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه؛ ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس. وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه: * (كأن لم) * الخ وكذا من مجموع الكلام، ولايخفى أن القول بالاستئناف البياني في الجملتين وجعل الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر ليس بشيء، وقد ذكر غير واحد أن هذا الاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون: أخوك الذين نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلا من الضمير في * (يغنوا) * وأن يكون في محل نصب بإضمار أعني، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر * (الذين كذبوا شعيبا كانوا) * و * (كأن لم يغنوا) * حال من ضمير * (كذبوا) * وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلا منه وعلى الوجهين يكون * (كأن لم) * الخ حالا، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر.
[بم وقوله سبحانه:
* (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين) *.
* (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم) * تقدم الكلام على