فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها الأغواص. الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتي بعد براءة بهود كما في مصحف أبي بمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتي بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح * (بالر) * وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الاعراف، ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها، ولو أخرت براءة عن هذه السور الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول.
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة * (الر) * قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح * (بالم) * وتوالي الطواسين والحواميم وتوالى العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل * (بالم) *، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها، هذا ما فتح الله تعالى به على، ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعي السبع الطول فقدم الأصول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول وجعل الأنفال بعد النور.
ووجه المناسبة أن كلا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في النور * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض) * (النور: 55) الآية. وفي الأنفال: * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) * (الأنفال: 26) الخ. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على والعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل ا ه.
وأقول: قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا المولى الجليل والحمد لله تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهر ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن اسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد. وابن جبير. ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عند الحاكم أنها اكلهف، وذهب جماعة كما قال في اتقانه: إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة، وقد ذكر ذلك الفيروزابادي في قاموسه، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال: كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والاخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.