تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ٩٥
المال فعصاه فجاهد ثم قال صلى الله عليه وسلم: " فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقا على الله تعالى أن يدخله الجنة " ولعل الاقتصار منه صلى الله عليه وسلم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما أن المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر. ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل، ونصب (الصراط) إما على أنه مفعول به بتضمين * (أقعدن) * معنى ألزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن أو على الظرفين وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلا، ومن ذلك في المشهور قوله: لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه كما عسل الطريق الثعلب * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيم‍انهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم ش‍اكرين) *.
* (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها، والمراد لأسولن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية و * (لأقعدن لهم) * (الأعراف: 16) على ما قيل ترشيح لها، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أيضا عن عكرمة والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضا، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلا أيضا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمهما في الممثل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن * (من بين أيديهم) * من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي * (ومن خلفهم) * من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة * (وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * من جهة حسناتهم وسيآتهم، وتفسير الأيمان بالحسنات والشمائل بالسيآت لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال: بثين أفي يمنى يديك جعلتني * فأفرح أم صيرتني في شمالك وقال الأصمعي: يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات. ونظير هذا ما قيل: * (من بين أيديهم) * من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه * (ومن خلفهم) * من حيث لا يعلمون و * (عن أيمانهم وعن شمائلهم) * من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك، وقال بعض حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا: القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: * (من بين أيديهم) * والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: * (ومن خلفهم) * والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله: * (وعن أيمانهم) * والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله: * (وعن شمائلهم) * والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى، وقيل: غير ذلك، وإنما عدى الفعل إلى
(٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 ... » »»