تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٧ - الصفحة ١٣٦
ههنا لتضمينه معنى التكذيب، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر. ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء. وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل: إنها تعليل لقوله سبحانه: * (قد نعلم) * الخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل فكأنه قيل: لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى الله عليه وسلم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدا صلى الله عليه وسلم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية. وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال: كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فأنزل الله تعالى الآية، وقيل: المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى الكسائي، وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت. وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة. واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلى الله عليه وسلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدا فلا بد أن يكون كاذبا فيه، وقال مولانا سنان: إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق؛ وقال الطيبي: مرادهم إنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر، وقيل: معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وقيل: المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظالمين من وضع المظهر موضع المضمر، وقيل: غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل.
وقرأ نافع والكسائي والأعمش عن أبي بكر * (لا يكذبونك) * من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه، ورويت أيضا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، فقال الجمهور: كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل؛ وقيل: معنى أكذبته وجدته كاذبا كأحمدته بمعنى وجدته محمودا، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول. كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه.
* (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أت‍اهم نصرنا ولا مبدل لكلم‍ات الله ولقد جآءك من نبإ المرسلين) *.
وقوله تعالى: * (ولقد كذبت رسل من قبلك) * تسلية إثر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين
(١٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 131 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 ... » »»