ثم دونه في هاتيك المواضع وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض) * مع قوله سبحانه وتعالى: * (وأنشانا من بعدهم قرنا آخرين) * (الأنعام: 6) والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الاخر اه، ولا يخلو عن دغدغة. واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره وبم أخرى نظرا إلى أوله وكذا شأن كل ممتد.
* (قل لمن ما فى السماوات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) *.
* (قل) * على سبيل التقريع لهم والتوبيخ * (لمن ما في السماوات والأرض) * من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا. وقوله سبحانه وتعالى: * (قل لله) * تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن - كما قال الإمام - في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى: * (قل لمن) * الخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله. وقوله عز وجل: * (قل لله) * معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره. وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين. وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه.
* (كتب على نفسه الرحمة) * جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق أثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا * (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * (آل عمران: 117، النمل: 33)، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل: هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي "، وفي رواية الترمذي عنه مرفوعا " لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتابا عنده بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي "، وفي رواية ابن مردويه عنه " إن الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه قبل أن يخلق السموات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي " إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
وفي " شرح مسلم " للإمام النووي: " قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته