تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ١٨٢
على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا، وقيل: إن جملة * (ينفق) * في موضع الحال من الضمير المجرور في * (يداه) * واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء منه، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: * (هذا بعلى شيخا) * (هود: 72) إذ قيل: إن شيخا حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزءا أو كجزء أو عاملا، وههنا المضاف جزء من المضاف إليه، أو كجزء فليس بممتنع، وجوز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لاضمير لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أن ينفق بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدأ، نعم التقدير خلاف الأصل والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم.
* (وليزيدن كثيرا منهم) * وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا * (ما أنزل إليك) * من القرآن المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به * (من ربك) * متعلق - بأنزل - كما أن إليك كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يقدم على المنتهي لاقتضاء المقام - كما قال شيخ الإسلام - الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف، والموصول فاعل - ليزيدن - والاسناد مجازي، و * (كثيرا) * مفعوله الأول، و * (منهم) * صفته.
وقوله تعالى: * (طغي‍انا وكفرا) * مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرض مرضا، ويحتمل أن يراد - بما أنزل - النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي أنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملائمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره.
* (وألقينا بينهم) * أي اليهود. وقال في " البحر ": " الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه: * (لا تتخذوا اليهود والنصارى) * (المائدة: 51) ولشمول قوله عز وجل: * (يا أهل الكتاب) * (المائدة: 59) للفريقين، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد ". * (العداوة والبغضاء) * فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة، والعداوة والبغضاء بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهن وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان (في البحر " 3 / 525) بعد أن أرجع الضمير للطائفتين: " إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام ".
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»