تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ١٢٨
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: عن - اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك - فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام - وبك المستغاث - وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " إذا استعنت فاستعن بالله تعالى " الخبر، وقال تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * (الفاتحة: 5).
وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى حيا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك - في التوسل والإقسام بالذات - البحت، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك - وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام - شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في " الصحيح "، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم - كما يزعمه البعض - في التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه وسلم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا.
بقي ههنا أمران: الأول: إن التوسل بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى، الثاني: إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا وأن لا يكنه، فهو قريب منه ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في " معجمه " من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق
(١٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 123 124 125 126 127 128 129 130 131 132 133 ... » »»