تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ٣٥
لدلالة الجملة، وكذا جواب * (لو) * إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم لو تسوى لسروا. وقرأ نافع وابن عامر ويزيد * (تسوى) * على أن أصله تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، وحمزة والكسائي * (تسوى) * بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال: سويته فتسوى.
* (ولا يكتمون الله حديثا) * عطف على * (يود) * أي أنهم يومئذ لا يكتمون من الله تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث إن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا، أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان، وإنما يقولون: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) في بعض المواطن قاله الحسن، وقيل: الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على * (تسوى) * على معنى - يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وبعثه في الدنيا - كما روي عن عطاء بعيد جدا. وأقرب منه العطف على مفعول * (يود) * على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا * (والله ربنا ما كنا مشركين) *.
هذا ومن باب الإشارة: * (يريد الله ليبين لكم) * بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه * (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) * أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين * (ويتوب عليكم) * من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال والهداية إلى توحيد الصفات والتوبة إلى توحيد الذات * (والله عليم) * بمراتب استعدادكم * (حكيم) * (النساء: 26) ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله * (يريد الله أن يتوب عليكم) * تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة * (أن تميلوا) * إلى السوي * (ميلا عظيما) * (النساء: 27) لتكونوا مثلهم * (يريد الله أن يخفف عنكم) * أثقال العبودية في مقام المشاهدة، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها * (وخلق الإنسان ضعيفا) * (النساء: 28) عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة؛ ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه: والصبر يحمد في المواطن كلها * إلا عليك فإنه مذموم وكان الشبلي قدس سره يقول: إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك * (يا أيها الذين آمنوا) * الإيمان الحقيقي * (لا تأكلوا) * أي تذهبوا * (أموالكم) * وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي * (بينكم بالباطل) * بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله * (إلا أن تكون تجارة) * أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا * (عن تراض منكم) * واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم * (ولا تقتلوا أنفسكم) * بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات * (إن الله كان) * في أزل الآزال * (بكم رحيما) * (النساء: 29) فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * وهي عند العارفين رؤية
(٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 ... » »»