تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ١٥٦
صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وشهد الله تعالى له بقوله: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يؤذن بذلك قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام. وقد روى الحاكم وصححه عن جندب " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى: إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " والتشبيه على حد * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * (البقرة: 183) في رأي، وقيل: إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى. وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره - كما قيل - وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ وأجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف البنوة فإنها تقتضيها قطعا، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.
* (ولله ما فى السم‍اوات وما فى الارض وكان الله بكل شىء محيطا) *.
* (ولله ما في السم‍اوات وما في الأرض) * يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات) * (النساء: 124) على أنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله سبحانه: * (ومن أحسن دينا) * (النساء: 125) اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه: * (واتخذ الله) * (النساء؛ 125) الخ بناءا على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى. وقيل: لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب المخلوقين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.
* (وكان الله بكل شيء محيطا) * إحاطة علم وقدرة بناءا على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلا بد من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (وإذا ضربتم في الأرض) * أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس أو لتحصيل أحوال الكمالات * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * أي تنقصوا من
(١٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 ... » »»